سافانا الثقافي – “الرحيل الأخير: الفنان أحمد ناجي ونهاية عصر الفن الصومالي الأصيل ” هناك في أعماق الضباب العنيد، وسط سحب الغربة المدلهمة تتلاشى قامة جديدة من قامات الفن الأفريقي عامة، والصومالي خاصة، بغيب صوت دائم الحضور وراء ذاك الضباب، ويختفي عمود من أكبر أعمدة الموسيقى في الصومال، هناك في لندن يترجل الفنان أحمد ناجي سعد، عن عمر يناهز 84 عامًا، بعد معاناة غربة كانت أشبه بموت مؤقت.
ويمضي مكفّنًا بحلم عودة الصومال إلى زاهر أيامه، يغمض عينيه وهو موقن بالفن ورسالته الخالدة في تهذيب النفوس والمشاعر، تلك الرسالة التي لا تستطيع ويلات الحروب حرقها، ويمضي تاركا خلفه تراثًا لا ينمحي من ذاكرة الصوماليين والعرب، ورحل ناجي الذي كان يتمتع بموهبة فريدة في العزف على آلات موسيقية عديدة، منها العود والبيانو والكمان، وصاحب القدرة الساحرة على الغناء بنبرة صوت عالية ونقية، مما جعل أغانيه دائمة الترديد على لسان جمهوره العريض.
المسيرة الفنية:
ولد أحمد ناجي سعد بالعاصمة الصومالية مقديشو عام 1934 في ”بلاجو عرب” أي الحي العربي في مقديشو، وتلقى تعليمه الأساسي والثانوي في مقديشو، يقول في أحد اللقاءات التلفزيونية: عشت في أزهى عصور التعليم الصومالي، حيث كانت اللغة الإيطالية والعربية لغتي الكتابة، لكن الصومالية انضمت إليهما كلغة كتابة في عام 1972 بفضل الدعم والتشجيع المعنوي من الرئيس الصومالي الراحل محمد سياد بري، وبدأ أحمد ناجي رحلته الفنية في عام 1956، وكان داعمًا قويًا لـ “منظمة الوحدة الشبابية الصومالية” في زمن كانت الصومال تعيش فيه أجواء التحرُّر من قبضة الاستعمار الإيطالي.
كان الفنان أحمد ناجي يستخدم اللغة العربية في كثير من أغانيه وذلك لنقل رسائله إلى العالم العربي. الأغاني العربية الحماسية التي أداها كانت متنوعة في معانيها وتأثيراتها. والفنّان ابن بيئته، كونه جزءًا من مجتمعه، يشارك شعبه لحظات الفرح والألم، يتحرك معهم حيثما يتجهون. الفنان ليس كما يعتقد البعض، معزولًا ويعيش في برجٍ عاجي، بل يعد فاعلاً و مشاركاً في الأحداث المحيطة، يشعر بألم الوطن ويفرح عندما يحقق بلده إنجازًا، لو كان صغيرًا. الأغاني الحماسية العربية التي أداها كانت تحمل الكثير من المعاني، ولم تقتصر على تحفيز وإثارة الشعور الوطني لدى الصوماليين فحسب، بل تضمنت أيضًا رسائل أخرى. من بين هذه الرسائل، كانت تعزيز اللغة العربية في وجدان الفرد الصومالي، وتسليط الضوء على الهوية العربية والإسلامية في الصومال. فالاستعمار لم يقتصر على سرقة ممتلكات شعبنا فحسب؛ بل كان يهدف أيضًا إلى طمس الثقافة والهوية الصومالية، وكذلك طمس الهوية العربية الإسلامية التي كانت جزءًا من الصومال في ذلك الوقت.
على مر السنين، أصبح أحمد ناجي نقطة مرجعية في الموسيقى الصومالية. ألف العديد من الأغاني التي أصبحت أيقونات للثقافة الصومالية. ومن بين أشهر أغانيه “Hobolada Waaberi” و”Qaraami”، وكان له دور كبير في تشكيل الهوية الموسيقية الصومالية، وتعد أغنية (يا أيها الصومال شمّروا وبادروا عونا لإخوانكم: فاهدنا يا رب وارشدنا)، أول أغنية غناها باللغة العربية، و كانت تذاع وغيرها من الأغاني الوطنية في إذاعة مقديشو لاحقاً بعد تحرر الصومال من الاستعمار.
لقد اختار ناجي طريق الفن منذ صغره حتي أصبح من أهم الفنانين الصوماليين، وصار مدرسه كامله غنية بالأغاني اليمنية والسودانية والخليجية ، وفي النصف الأول في الستينيات من القرن الماضي كون فرق موسيقا عديده منها فرقة (jemney seven ) تعني الشبان السبعة ،وكان أحد أعضاء الفرقة فنان إيطالي ، وكانت تطرب الناس في المسرح الوطني، وفي فنادق الخمسة نجوم في العاصمة مقديشو: وفي عام 1971م أسس فرقة (shareero stars) التي كانت تضم فنانين كباراً، كما سافر إلى الدول العربية والإفريقية والآسيوية حيث يعرض فيها الأغاني الصومالية والعربية، وله أغانٍ باللغة العربية باللهجات اليمنية والمصرية والسودانية.
كما شارك بأغانيه في مهرجان دنيا في السودان عام 1978 حتى وصفه السودانيون بأنه سوداني الهوى والهوية من شدة إتقانه اللهجة السودانية الدارجة، وتخرج على يديه فنانون وفنانات كبار منهم مريم مرسل عيسى، لول جيلاني، فينوس طاهر وغيرهن، وبعد سقوط الحكومة المركزية في الصومال عام 1991م انتقل إلى اليمن وأقام في صنعاء، أحمد ناجي سعد أيقونة فنية صومالية، تربّعت عرش الغناء والفن الصومالي منذ خمسينيات القرن المنصرم.
السودان التي تسكنه:
كانت للراحل علاقات وصداقات كثيرة مع السودانيين خاصة الفنانين والشعراء .. ومن شدة تأثره بالفن السوداني غنى عدة أغان لشعراء سودانيين من بينها أغنيته المشهورة ( حان الزفاف ) للشاعر السوداني عزمي أحمد خليل وقد غناها الفنان السوداني هاشم ميرغني، وفي عام 1962 زار السودان وكان بصحبته كل من: الفنانة الراحلة حليمة خليف مجول وزينب حاجي علي بحسن وقد غنيا معاً في مسرح أم درمان الوطني، ورحب بهم الشعب السوداني المضياف، واحتفوا بالأغاني الصومالية احتفاءً يليق بمقام ذلك الفن، وكانت كلمات أول أغنية غنوها تلك الليلة:(نحن أحبا من بدري: وبيننا صداقة أبدية: عاشوا عاشوا عبود وآدم عبد الله) في هذه الفترة كان رئيس السودان الفريق إبراهيم باعبود.
في أحد اللقاءات المتلفزة تحدث “ناجي” عن حبه للسودان أو بالأحرى السودان التي تسكنه كما كان يردد فلم ينس اللهجة الدارجة السودانية، يستحضر الأماكن والشخوص الفنية في السودان بعفوية مطلقة، يتذكر- أحياناً- فنّانين ماتوا وآخرين على قيد الحياة، يسترجع ذكريات الماضي التليد، ويحبس على نفسه عبرات تكاد تنهمر على خديه كلّما تذكّر واقعة فنية نقشت على جدار ذاكرته، دون أن تنمحي بمرور الزمن وتعاقب الأيام؛ أو عزيزاً عليه رحل عن دنيانا الفانية من كبار الفنانين الصوماليين والسودانيين الذين عاصرهم طوال مسيرته الفنية المديدة.
كما أدى الراحل أغاني للفنانين أمثال: محمد وردي، وسيد خليفة، وصلاح ابن البادية، وعثمان مصطفى، وعائشة الفلاتية، وعبد العزيز محمد داؤود، وعبد الكريم الكابلي وكثير غيرهم، وغنى لمحمد وردي أغنية ” تسعة عشر سنة عمر زهور عمر الغرام وعمر المُنى” وأغنية ” يا ناسينا يا مجافينا حنّي علينا” وأغنية ” قاس قلبك علي ليه!” وأغنية ” أصبح الصبح لا السجن ولا السجان باقٍ”
مساهمته في ترجمة الأغاني الصومالية للعربية
ترجم الراحل أغاني صومالية كثيرة لمغنيين من السوادان الشقيق، وهم بدورهم كانوا يؤدونها بطريقة جميلة جذبت إليهم أنظار جماهير الفن والمسرح الوطني في الصومال، فعندما زار الفنان سيد خليفة مقديشو قام بأداء أغنية: ” أزيكم كيفنكم أنا لي زمان ما شفتكم” ترجمها له بالصومالية بنفس الإيقاع واللحن، فتهافت الناس من كل حدب وصوب للاستماع إلى أغاني هذا الفنان صاحب الصوت الشجي.
كما قام بترجمة أغنية هاشم ميرغني ” حان الزفاف وأنا حالي كيف بأوصفه؟!” هو وشاعر الأغاني الصومالي المعروف الراحل علي سجلي إلى الصومالية مع الاحتفاظ بالإيقاع واللحن، وقام بأدائها فوق مسرح مقديشو الوطني، وكانت هذه الأغنية مشهورة عند الصوماليين، وقليل من يعرف أنها ترجمة حرفية لأغنية هاشم ميرغني
“Amaraa I haystee Axdigaan lahayn anigaa Offinwaaye!”
كما غنى للفنان السوداني صلاح ابن البادية أغنية ” سال من شعرها الذهب” وعثمان مصطفى غنى له ” رحلت في حالك نسيتني” وعبد العزيز محمد داؤود غنى له” من فريعها البان البسوح نديان”، ويُعد الفنان محمد وردي من أكثر الفنانين السودانيين الذي غنى له أحمد ناجي طوال مسيرته الفنية، فغنى له أغنية ” يا ناسينا يا مجافينا” وكان لها وقع خاص في نفسه، وتأثّر بها أيما تأثر، ولذلك قام بنقل معانيها ودلالاتها إلى اللغة الصومالية وعزف لها بالعود، وكلماتها كالتالي:Waa I xoortoo I xumaysee yaa I xaal marina
أحمد ناجي والفنان السوداني عبد الكريم الكابلي
إن كل من يراهما من الصوماليين والسودانيين يقولون إنهما شبيهان في الملامح والسحنة، وقد تعرفا على بعضهما في السودان ضمن مشروع التبادل الثقافي الصومالي السوداني في سبعينيات القرن المنصرم وغنّى له أغنية مشهورة ” شذى زهر ولا زهر فأين الظل والنهر” وهي من أشهر أغانيه.
سر تشابه الأغاني الصومالية والسودانية
السر يكمن أولا في تشابه الألحان الصومالية والسودانية ، فكلا البلدين تعزف من اللحن الخماسي، بالإضافة إلى تشابه المواقف والظروف، الفن الصومالي تأثر بالفن السوداني بعمق كلماته ووضوح مواقفه، وكجزء من رد الجميل للسودانيين زار ذات مرة شاعر الأغاني الصومالي المشهور حسين فارح ” المقرن” وتأثر في انسياب نهر النيل وتدفقه والتقاء النيلين في تلك البقعة من العالم، والصومال كما هو معروف خارج دول حوض النيل، هناك نهريْ جوبا وشبيلي في الصومال، ومع ذلك ألّف حسين فارح أغنية سمّاها بـ” النيل” بعد زيارته للخرطوم قامت بأدائها الفنّانة الراحلة حليمة خليف مغول وبصوتها الجهوري العذب وهي تتمايل كأغصان الشجرة، ولازالت هذه الأغنية – وغيرها من الأغاني التاريخية- في أرشيف الأغنية الصومالية.
صديقه في الفن
من أصدقاء الراحل أحمد ناجي الفنان محمد ربشه فنان سوداني من أصول صومالية، ترعرعا معًا في حي واحد، درسا معاً في المدرسة الابتدائية في الصومال، لكن محمد ربشة أكمل تعليمه في السودان، وتخرج من معهد ” أم درمان للموسيقى والدراما” له أغانٍ سودانية مشهورة، اختلط على الشعب السوداني لدرجة لا يعرف السوداني أن أصول هذا الفنّان صومالية.
أحلامه ومشاريعه الفنية في غربته
هاجر ناجي كما هاجر معظم فنّاني الصومال إلى الخارج، عندما انهارت الحكومة المركزية الصومالية، واستقرّ به المقام في عاصمة الضباب لندن، وفي أيامه الأخيرة انحصر عمله في إقامة مهرجانات صومالية في أرض الغُربة، لإعادة الأجيال التي نشأت في الخارج، وتلقت تكوينها المعرفي في المهجر إلى حضن الفن والأدب الصومالي بعد طول انقطاع عنها، وأسس فرقة فنية اسمها ” السلام” تغني للسلام والمحبة، يحيي في قلوب الصوماليين معاني التكافل والتعاضد وإعادة بناء ما تهدم من كيان الدولة.
وبمرور الوقت، بدأت صحته في التدهور، ولكنه لم يتوقف عن الغناء حتى أواخر حياته. وفي 5 سبتمبر 2023، توفي أحمد ناجي سعد في لندن بعد معاناة طويلة مع المرض، بوفاته، فقدت الأمة العربية والأمة الصومالية أحد أعظم رموزها الثقافية. ولكن سيظل اسمه حيًا في قلوب محبي الفن والجمال، وسيظل صدى أغانيه يعيش في أذهان الناس، خالص التعازي وعظيم المواساة لأسرة وأقارب الفقيد وللشعب الصومالي.
إقرا المزيد:
- السفارة الصومالية وعالم الظل: مأساة الهوية الثقافية المنسية
- ليلى أبو العلا تجسد روح السودان في روايتها الجديدة روح النهر
- الصومال وتأليف الكتب وقراءتها