تمكّنت الرواية الأفريقية خلال عام 2021 من احتلال المشهد الروائي العالمي في وجهيه، الأنغلوفوني والفرنكوفوني، بعد فوز أربعة روائيين أفريقيين بجوائز أربع هي الأهم عالمياً، وهي: “نوبل”، التي حصدها الروائي التنزاني عبدالرزاق قرنح، و”بوكر” العالمية، التي حازها السنغالي ديفيد ديوب، و”بوكر” البريطانية التي فاز بها الجنوب أفريقي دايمون غالغت، والـ”غونكور” الفرنسية، الأرقى في العالم الفرنكوفوني، التي قطفها السنغالي محمد أمبوغا سار. هؤلاء الروائيون الذين يكتبون بالإنجليزية والفرنسية زاحموا روائيين غربيين كباراً في حقول الجوائز الأربع، وفرضوا أدبهم بجدارة، ونالوا الجوائز عن استحقاق، بعيداً عن خفايا “الكواليس” التي غالباً ما يجري الكلام عنها.
مفاجأة نوبل
تمثلت الخبطة الكبيرة هذا العام في فوز الروائي التنزاني الأنغلوفوني المقيم في بريطانيا، والحامل جنسيتها، عبدالرزاق قرنح بجائزة نوبل، هو شبه المجهول عالمياً والمجهول عربياً. وكان فوزه بمثابة مفاجأة شخصية لم يكن يتوقعها، كما عبر في بعض حواراته الصحافية، خصوصاً أنه بعيد عن الأضواء الإعلامية والقوائم “الترشيحية” التي يتم تبادلها قبل إعلان الجائزة. كان اسم الروائي الكيني الأنغلوفوني نغوجي واثيونغو مرشحاً بقوة للفوز إذا ما قررت لجنة تحكيم نوبل اختيار كاتب أفريقي، فهو مترجم إلى لغات عالمية عدة، ومنها العربية، لكن “عاصفة” نوبل تأتي دوماً بما هو غير منتظر، لكن هذه المفاجأة لا تعني بتاتاً أن قرنح لا يستحق الجائزة، مثل بعض الفائزين بـ”نوبل” الذين نُسيت أسماؤهم بعد سنوات قليلة، وما عاد يذكرهم أحد. وعلى خلاف هؤلاء بدت الأكاديمية السويدية بارعة كما في مرات عدة، في نبش اسم شبه مجهول وإخراجه إلى الضوء وتقديم أدبه إلى العالم. وكانت إحدى رواياته وعنوانها “فردوس” المنشورة سنة 1994 قد أدرجت في القائمة القصيرة لـ”البوكر” البريطانية من غير أن يحالفها الحظ.
وكم كان بيان لجنة نوبل مصيباً وحقيقياً عندما رأت أن رواياته: “تبتعد عن التنميط وتفتح عيون القراء على شرق أفريقيا المتنوع ثقافياً وغير المعروف في نظر الكُثر”. وأشار البيان إلى الموقع الذي يمثله أدب قرنح ثقافياً وحضارياً قائلاً: “تجد شخصياته نفسها في فجوة بين الثقافات والقارات، بين حياة كانت موجودة وأخرى تنشأ، لذا فهي غير آمنة إطلاقاً”. طبعاً هذه الشهادة قد تعني روائيين أفريقيين وآسيوين وعرباً و”عالمثالثيين”، لكن قرنق استطاع، بحسب آراء نقاد وصحافيين، أن يملأ هذه “الفجوة” بين الثقافات، بروايات وقصص تعبر عن إشكالية الهوية المنفصمة والذات التي تحاول رأب صدوعها المتشققة.
عبدالرزاق قرنح هو الأفريقي الرابع مبدئياً الذي يفوز بجائزة بوكر، إذا استثنينا نجيب محفوظ المحسوب على مصر والعالم العربي، بعد النيجيري وولي سوينك (1986)، ونادين غورديمير (1991)، وج. أم. كويتزي، وهما أبيضان من جنوب أفريقيا، وليسا أسودين بتاتاً. وقد يعني هذا أن سوينكا وقرنح هما الأفريقيان الحقيقيان اللذان فازا بـ”نوبل” حتى الآن. ومعروف أن روائيين وشعراء أفارقة يستحقون هذه الجائزة، وفي مقدمتهم الكيني نغوغي واثيونغو، والنيجيري آشبي، والتنزاني – الصومالي نور الدين فرح، والكونغولي آلان مابانكو، والنيجيرية تشيماندا نغوزي أديشي، وسواهم،
روايات بلغة الإستعمار
لكن ما يجب ملاحظته أن كل الروائيين الأفارقة الذين فازوا، ويفوزون بجوائز عالمية إنما يفوزن بها عبر لغتين “غريبتين” عن أصولهما، وعن لغتهم – الأم، وهما الإنجليزية والفرنسية، أي لغتا الاستعمار، أو الكولونيالية. طبعاً، هناك روائيون مهمون كتبوا باللغات الأفريقية المحلية، وهي كثيرة، وأبدعوا أعمالاً أصيلة وفريدة، لكنها لم تخرج من إطارها الإقليمي إلى العالمية، ونادراً جداً ما حظي بعضها بترجمة غربية. وغالباً ما يتحدث النقاد عن رواية أفريقية هي “المسافر إلى الشرق”، كتبها توماس موفولو بلغة السوتو في جنوب أفريقيا. ومعروف أن روايات كثيرة كُتبت باللغات المحلية في دول أفريقية عدّة، غداة الغزو الاستعماري، وتحديداً بدءاً من القرن العشرين، لكنها ظلت أسيرة محليتها. ويمكن القول إن الرواية الأفريقية في المعنى الكلاسيكي ظهرت بُعيد الاستعمارالذي راح ينقل من ثم في بلدان عدة، ينقل أبجدية اللهجات الأفريقية إلى الحرف اللاتيني، تسهيلاً للكتابة والقراءة، لكن التراث الأفريقي الشفهي والمكتوب، الشعبي والقبلي، حافل بحكايات وأساطير وملاحم وأشعار هائلة، فريدة بأجوائها التخييلية والتاريخية، الوجدانية والطبيعية والدينية، وكذلك بلغاتها وإيقاعاتها ومجازاتها ورموزها…
وهذا التراث الهائل غرف وما برح يغرف منه، معظم الشعراء والروائيين الأفارقة الذين يكتبون بالإنجليزية والفرنسية. وعلى الرغم من تراجع الاستعمار يبدو الروائيون الأفارقة، الأنغلوفونيون والفرنكوفونيون، المقيمون في بلدانهم أم في الغرب، مُصرّين على معالجة القضايا الأفريقية الصرف التي ما زالت تشغل الشعب في الداخل، ومنها قضية الهوية “المُضعضعة”، والفقر، والظلم، والفساد، والمرض، واللاعدالة، والتسلط، والتخلف عن العصر، عطفاً على الحروب الأهلية والقبائلية والصراعات العرقية والدينية، وسائر المشكلات التي جعلت أفريقيا تسمى “قارة البؤس”. ويجب عدم التغاضي عن قضايا أخرى يعالجها الروائيون، ومنها قضية الأفارقة الذين يعيشون في الغرب بحال من الفقر والعوز والذل و”التمزق” الوجودي، وقضية المهاجرين غير الشرعيين الذين يقبعون في المخيمات وفي مدن معزولة منتظرين حل مشكلاتهم.
ديوب و”البوكر” العالمية
الجائزة الأفريقية العالمية الثانية هي جائزة البوكر العالمية التي تمهد، كما يقال لدخول الفائز بها في لائحة المرشحين إلى “نوبل”، وقد فاز بها الروائي السنغالي الفرنكوفوني ديفيد ديوب، عن روايته “شقيق الروح”، الصادرة عام 2018، وترجمتها إلى الإنجليزية الشاعرة الأميركية أنا موشوفاكيس، بعنوان “في الليل كل الدم أسود”، وهي جملة وردت في قلب الرواية. وبات ديوب أول فرنكوفوني أفريقي (وفرنسي) يحوز هذه الجائزة عن رواية تتعمق في معالجة قضية الاستعمار. رواية ديفيد ديوب هي الثانية له بعد رواية أولى هي “الانجذاب العالمي”، التي صدرت عن دار لارماتان أفريقية الاهتمامات، ولم تلقَ هذه الرواية ترحاباً لافتاً في الوسط الأدبي، وكانت بمثابة محاولة روائية أولى.
وكانت الرواية الفائزة “شقيق الروح” قد فازت سابقاً بجائزة “غونكور” للطلبة الثانويين في فرنسا، وجائزة أحمدو كورونا في سويسرا. وتدور الرواية حول شخصية الراوي ألفا ندياي، وهو جندي سنغالي، أصيب رفيقه ماديمبا ديوب في السلاح وصديق طفولته، بجروح خطيرة خلال هجوم عسكري. هذه الإصابة جعلته يتوسل إلى ألفاً أن يطلق عليه رصاصة الرحمة، لكن صديقه لم يقوَ على ذلك. وتسرد الرواية كيف حاول ألفا ندياي تخليص رفيقه الذي مات بعد معاناة مروعة. جو الرواية مأساوي وزمنها زمن الحرب والمواجهات في صفوف الجيش الفرنسي. ويخيم عليها بعد إنساني عميق نابع من قلب الصداقة والأخوة. ومعروف أن ديوب الذي نشأ في السنغال، استمع إلى حكايات جده الأكبر، وكيف قاتل في الحرب العالمية الأولى مع الجيش الفرنسي إبان الاستعمار. وتحمل الرواية تحية معلنة للمحاربين الذي خاضوا تلك المعارك، خصوصاً الأفارقة الذين بلغ عددهم نحو 200 ألف، لكن الروائي لا يخفي مواجهته لماضي فرنسا الاستعمارية
التي سيطرت على السنغال، و”جرجرت” آلاف الجنود السنغاليين “السود” ليقاتلوا في الصفوف الأمامية شديدة الخطورة، ضد الجنود الألمان، وليرتكبوا الفظاعات التي تفرضها الحروب الوحشية.
“غونكور” سنغالية
الرواية الأفريقية الثانية التي برزت هذا العام هي “ذاكرة الرجال الأكثر سرية”، للروائي السنغالي محمد أمبوغا سار، وقد فازت بجائزة “غونكور” التي تُعد أهم جائزة فرنسية أدبية، وهي صادرة عن دار نشر صغيرة (فيليب راي – جاسمان) على خلاف الروايات الفائزة سابقاً، الصادرة عن دور نشر قوية غالباً ما تستأثر بالجوائز. وقبل فوزها حظيت الرواية بترحاب كبير في أوساط النقد والصحافة، وتمكنت من منافسة أعمال أسماء بارزة على الفوز، مثل الروائية الشهيرة كريستين أنغو والروائيين المعروفين سوي شلاندو، ولوي فليب دلامبير. الروائي السنغالي محمد أمبوغا سار في الحادية والثلاثين من عمره، صاحب موهبة كبيرة وخبرة في الفن الروائي وتقنياته وفي حبك الخيوط السردية والتعمق في صوغ الشخصيات الأفريقية المأزومة.
تدور وقائع الرواية بين السنغال وفرنسا والأرجنتين، بين القرن العشرين والقرن الحالي، والبطل طالب سنغالي شاب يشبه الكاتب نفسه في نقاط متعددة. يكتشف البطل تحفة أدبية تعود إلى عام 1938 ويقرر أن يكتشف أسرار صاحبها وسيرة حياته. وعبر التحقيق الذي يقوم به والشهادات التي يجمعها، يكتشف شيئاً فشيئاً حياة الكاتب الغامض الذي كان نال جائزة فرنسية مهمة، لكنه ما لبث أن اتهم بسرقة روايته من نصوص أخرى، فحملت عليه الصحافة وحاصرته. وبعد عجزه عن الدفاع عن نفسه، انسحب من عالم الأدب ولاذ بالصمت طوال خمسين عاماً، حتى وفاته.
استوحى محمد أمبوغا سار روايته مستوحاة من قضية الكاتب المالي يامبو أولوغيم (1940-2017) الذي كان قد فاز بجائزة “رونودو” الفرنسية عام 1968، واتهم من ثم بسرقتها من عمل آخر، فرحل عن باريس، وتوقف عن الكتابة، والتزم الصمت طوال حياته، بعد أن عجز عن الدفاع عن نفسه.
“الوعد” الضائع
الرواية الأفريقية الثالثة التي برزت هذا العام هي رواية “الوعد” التي فازت بجائزة بوكر، لكن وصاحبها الروائي والمؤلف المسرحي الجنوب أفريقي دايمون غالغت، وهو أبيض، لكنه يصر على انتمائه الأفريقي بشدة. تسرد الرواية قصة عائلة من المزارعين البيض بعد انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وتدور أحداثها في الفترة بين نهاية نظام الفصل العنصري ورئاسة جاكوب زوما، وتكمن أهمية الرواية في تصويرها انسلاخ أسرة بيضاء تدريجياً من بريتوريا مع تقدم البلاد في مسار الديمقراطية. وسعى الكاتب بصفته “جنوب أفريقي أبيض” إلى إظهار كيفية تأثير مرور الزمن على أسرة وبلد على سياسة هذا البلد ومفاهيم العدالة، وهذا يعني أن الرواية تسرد تاريخاً أفريقياً من وجهة نظر مواطن أبيض، كان شاهداً، بل خير شاهد على سياسة التفرقة العنصرية. ترسم الرواية التي تتراوح أحداثها بين الواقع والتخييل، رحلة تحطم عائلة بيضاء من جنوب أفريقيا، تعيش في مزرعة خارج بريتوريا. يتجمع آل سوارت في جنازة، ويتفرقون بعدها، ويكره الجيل الأصغر من الأسرة كل ما تمثله عائلتهم، بما في ذلك الوعد الذي لم يتحقق للمرأة السوداء التي عملت معهم وخدمتهم طوال حياتها.
وبعد سنوات من الخدمة، وعدت الخادمة بمنزل وأرض خاصين بها، ولكن مع مرور عقد تلو الآخر، لا يتحقق هذا الوعد الذي يوصف بـ”الضائع”، حتى بعد انتقال البلاد من ماضي الانقسامات العميقة القديمة إلى واقع المجتمع الجديد الأكثر عدلاً.
في أحد تصريحاته الصحافية قال الروائي دايمون غالغت: “هذا العام كان رائعاً للأدب الأفريقي”، و”لكل القصص التي حكيت، وتلك التي لم تُحك بعد، في القارة التي أنتمي إليها”. وقال: “استمروا من فضلكم في الاستماع إلينا، ثمة كثير سيأتي بعد”.
#نقلا عن اندبنت عربية