لعل أهم فضيلة للفيسبوك أنه ساهم في تفتيت سطوة المراكز، وأتاح الفرصة لأصوات مهمشة كي تعلن عن نفسها، بل أتاح إمكانية التواصل بين قاطني الهوامش؛ فلم أكن أتصور يوما أنني سأتعرف إلى كتّاب من الصومال يكتبون بالعربية، ويعيشون الهم الصومالي اليومي لحظة بلحظة.
عبر الفيسبوك تعرّفت إلى محمود عبدي وقرأت مقالاته. وقابلت رحمة شكري التي تقيم في نيروبي، وطرحت عليها الأسئلة، وقد وجدتْ مشقة في إرسال الردود ونماذج من نصوصها؛ بسبب انتقالها إلى بيت آخر جراء الأحداث التي يتعرض لها الصوماليون في كينيا.
وبفضل الفيسبوك عرّفني صديق ـ قبل عامين ـ إلى كاتب صومالي اسمه محمد علي ديريه، لأعود وألتقيه صدفة في إحدى الأمسيات الشعرية في عمّان، فأكتشف أنه يقيم في الأردن بغرض الاختصاص في الطب.
وقد يستوقفنا سائل، ونحن في غمرة حماستنا: مهلاً… هل يوجد أدب عربي في الصومال؟ سؤال سمعناه كلما تحدثنا عن نص قرأناه لكاتب صومالي، وسنحاول الإجابة عليه.
جانب من الحكاية
في عام 1972، أصدر الرئيس الصومالي محمد سيّاد بري قراراً بمنع التدريس باللغة العربية وإغلاق المدارس الأزهرية التي افتتحها جمال عبد الناصر لتعزيز العربية في الصومال. وتم اعتماد اللغة الصومالية كلغة رسمية وحيدة في البلاد ـ بعدما كانت تنافسها العربية والإيطالية والإنجليزية ـ مستخدمة في التعليم والدوائر الحكومية كافة. كما تحولت كتابة الصومالية من استخدام الأحرف العربية إلى الأحرف اللاتينية، في رحلة “بري” الصارمة نحو الحداثة.
وإن كانت حكومة الانقلاب العسكري ـ وقتئذ ـ قد استطاعت الإمساك بزمام الأمور في البلاد والسيطرة عليها سياسياً، فإنها لم تستطع السيطرة على قلوب مواطنيها، ولم يكن من السهل فض الاشتباك الجميل بين الصوماليين واللغة العربية التي ترتبط عندهم بالإسلام والقرآن، فضلاً عن أن الكثير من القبائل الصومالية تنتسب إلى أصول عربية.
وظلت العربية تُدرّس في الكتاتيب التابعة للمساجد والزوايا المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد. وكنوع من التحدي، رفض بعض الأهالي إرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية. وحين أدرك الرئيس بري ـ بعد سنوات ـ صعوبة فك هذا الاشتباك؛ أعاد فتح المدارس الأزهرية، وتم التعامل مع العربية كلغة ثانية بعد الصومالية.
أزمة هويّة
لقد ظل الأدب الصومالي يتداول شفاهياً حتى فترة قريبة، فاللغة الصومالية لم تدوّن حتى عام 1972. كما أن هذا الأدب يخضع لخصوصية تعدد المشارب والتيارات التي ترفده؛ فمن جهة خضع شمالي الصومال للاستعمار الانجليزي، فكانت الانجليزية هي اللغة الرسمية هناك. في حين خضع القسم الجنوبي للاستعمار الإيطالي لتكون الإيطالية هي اللغة الرسمية.
وفي الوقت نفسه كانت العربية هي اللغة المستخدمة ـ قبل الاستعمار ـ في المعاملات الرسمية والتجارية، فضلاً عن اللغة الصومالية المحلية. وقد أدى هذا التداخل والتعدد إلى إنتاج أزمة في الهوية الصومالية؛ فالسؤال الذي يطرحه الصوماليون على أنفسهم هو: من نحن؟ وبينما يرى بعضهم أن الصوماليين عرب ينتمون إلى بقية أقطار الوطن العربي، يرى بعض آخر أن الصومال بلد أفريقي ينتمي إلى القارة السمراء، وأنّ لا شيء يربطهم بالعرب. ويذهب فريق ثالث إلى تعزيز الرابط الإسلامي مع العرب، سواء وجدت روابط القربى معهم أم لم توجد.
يرى الشاعر والصحافي الصومالي محمود عبدي، المقيم في الإمارات، أنّ الأدب العربي في الصومال مرّ بمراحل عدة، منها ما كان قبل “تصومل” العرب الذين نزلوا البلاد، وانصهارهم الثقافي لصالح الثقافة الوطنية للأرض. أمّا المرحلة التالية فكانت بارتباط الأدب العربي في الصومال بالجانب الديني واللّغوي، كقصائد مدح النبي وآل البيت والصحابة وكذلك العلماء والأستاذة، وقصائد تعليمية في النحو والعقيدة وغيرها. وهو ما استمر عليه الحال إلى فترة قصيرة بُعَيْدَ الاستقلال، حين دخلت الفنون الأدبية العربية الحديثة، كالرواية والقصة، لينغمس الصوماليون في مرحلة من التلقي والتأثر بإبداعات أهل المشرق العربي.
إلّا أن الأدب العربي في الصومال ـ كما يرى عبدي ـ أخذ منحنىً جديدًا بتزايد هجرة الصوماليين إلى شبه الجزيرة العربية، بعيدًا عن مركز نشاطهم التجاري التقليدي “عدن”، وولادة جيل كامل في تلك البلاد، جيل يعتبر اللغة العربية لغته الأم، وهو ما منح زخمًا حقيقيًا للإبداع والتعبير باللغة العربية
ويتحلّق ذلك الجيل حول أصحاب المبادرات الكبرى من الصوماليين الذين ولدوا قبل فترة الاستقلال. ورغم قلة ما يتم طباعته ونشره من إبداعات صومالية باللغة العربية، إلّا أن جهود الحث والتشجيع المستمرة أدّت إلى طفرة في أعداد المدوّنين الكاتبين باللغة العربية، وفي عدد المقالات وسواها من أنواع الإبداع “قصير النَّفَسِ”. لكننا نشهد مساعي ودعوات ـ نرجو لها النجاح ـ لإيجاد قنوات تسمح بمرور إنتاج المبدع الصومالي إلى دور النشر العربية، مع مراعاة “حداثة التجربة وعدم وجود بدائل حقيقية للمبدع العربي الصومالي يمكنه تمرير أعماله من خلالها” على حد تعبيره.
الأدب الصومالي المنفي
في عام 1976، أصدر الروائي الصومالي نور الدين فارح (مولود عام1945) روايته “الإبرة العارية” بالإنجليزية فأثارت الجهات الحكومية ضده لتضمّنها انتقادات للدكتاتورية، ووضعته السلطات على قائمتها السوداء، تمهيداً لاعتقاله. وشاءت الأقدار أن يكون فارح حينها خارج البلاد، فاختار المنفى متنقلاً بين العديد من المدن الأوروبية والإفريقية، وأصدر أعمالاً روائية كثيرة، أشهرها ثلاثيته “دماء في الشمس” (خرائط، هدايا، أسرار). وقد نال شهرة حملت اسمه واسم بلاده إلى جمهور عالمي؛ توّجها بحصوله على جائزة “نيوستاد” الدولية عام 1998.
شخصية صومالية أخرى سجلت حضورها عالمياً، وهي عارضة الأزياء ويريس ديريه التي هربت من بيت أبيها في الصومال لتعمل خادمة في لندن، وتنقلت بين مهن كثيرة حتى وصلت إلى عالم الأزياء، قبل أن يتم اختيارها سفيرة في الأمم المتحدة لحقوق المرأة والطفل في الصومال. قصة حياتها هذه ترويها في كتابها “زهرة الصحراء” المؤلف بالاشتراك مع الكاتبة كاثلين ميلر.
أما الكاتب والطبيب محمد علي ديريه، المقيم في الأردن، والذي قد يكون أول كاتب صومالي يصدر كتاباً بالعربية، فإن تجربته ولدت ناضجة، فكتابه “إلى كاراكاس بلا عودة” يضم نصوصا أدبية متشعبة، أطلق عليها اسم “سرديات”، وأضاف إليها سبع قصص قصيرة فاز بعضها بجوائز في السعودية التي عاش فيها طفولته ومراهقته.
وقد لاقى الكتاب نجاحاً وقبولاً في الأوساط الثقافية العربية، إذ نفدت طبعته الأولى خلال أشهر صدوره الأولى في حزيران 2011، وصدرت الطبعتان الثانية والثالثة، وتحضّر دار “مدارك” لإصدار الطبعة الرابعة.
في سرديات ديريه يتم اختزال كل العوالم والهواجس التي تسكن الكاتب. ففي سردية واحدة يأخذنا في رحلة إلى المدن والبلاد التي أقام فيها أو مرّ بها، ونعود معه إلى وطنه الصومال لنشاركه همومه. بل قد ينتحي بنا جانباً ليحدثنا حديث المطارات وهمومها، عن الأشخاص الذين التقاهم وتحدث إليهم في السفر والترحال.
والغريب، بل الجميل، أنه في سردية واحدة قد ينقلنا بين عدة أفكار ومواضيع حتى نشعر أن الكاتب تاه وخرج عن فكرة النّص.. لنجده بقفلة متقنة يردّنا إلى الجادة، بل لنكتشف أن ما من فكرة دخيلة أو جملة متطفلة، وأن كل الأفكار داخل السردية تصب في خدمة الفكرة الأساس.
كما أنّ لغة الكاتب تمتاز بالجزالة والرصانة، ولا تنقصه الجرأة والقدرة على قول الكلمة، وتوجيه الرسائل المغلفة بلغة فنية قادرة على الحب وعلى إيجاد مكان لرجل الظل/الإنسان الصومالي في قلب القارئ، بأسلوبها المشوّق الذي يجعلنا نلهث ونحن في طريقنا إلى الخاتمة.
إن الأدب الصومالي المكتوب بالعربية يحمل نكهة خاصة ممزوجة بروح القرن الأفريقي. وقد يستطيع بعض الأدباء أن يجنحوا بهذه الخصوصية ليحفروا اسم الصومال عميقاً في ذاكرة الأدب العربي، كما فعل الطيب صالح مع خصوصية المجتمع السوداني. غير أن ما يحتاجه الأدب الصومالي هو أن تفتح له دور النشر العربية أبوابها، وأن تتعامل مراكز التمويل الثقافي العربي –على قلّتها- بجدية معه .
كاتب صومالي