سافانا الأدب والفنسافانا مختاراتسافانا مقالات الرأى

الاختباء في العراء لنور الدين فارح أحداث متوقعة

مختارات سافانا – يستمر نور الدين فارح في روايته الأخيرة “الاختباء في العراء” الصادرة عن دار بنغوين البريطانية ، وهي الجزء الأول في ثلاثية جديدة، في الانشعال بثيماته القديمة في سرد الوطن والهوية والحاضر الممتلئ بالألغام المتفجرة.
على الفور يبعث اسم فارح نبرة صومالية، ولكن بلسان إنكليزي. هو الذي ولد في قلافو في 1945 وغادر الصومال في وقت مبكر من حياته، ولا يعود إليها إلا لزيارات خاطفة، لكنه أقام الصومال سرديا من خلال سفر معقّد في الذاكرة والحاضر والهوية. لقد تحوّل الوطن لديه من مكان جغرافي إلى مكان روائي، وتحوّل بسرعة مثيرة إلى كاتب عالمي، متفرّغٍ للكتابة منذ الستينيات.

تناول فارح في باكورة أعماله الروائية مسائل الديكتاتورية الأفريقية التي عانت منها دُول ما بعد الاستقلال في أفريقيا، في سلسلة تحمل عنوان “تنوعات في إطار ديكتاتور أفريقي” يضع فيها تحت المشرحة البنية التسلطية في المجتمع الصومالي، في كافة أشكالها الذكورية والعشائرية والدينية، وهي مكونة من: “من ضلع أعوج”، 1970؛ “الحليب الحلو والمر”، 1976؛ “الإبرة العارية”، 1978؛ “ساردنز”، 1981؛ “أغلق يا سمسم”، 1983.

سرعان ما هوت البلاد في جحيم الحرب الأهلية، وجاءت مجموعته “دماء في الشمس” التي يلجأ الكاتب من خلالها إلى تفحص كل أشكال الهوية: الهوية الاجتماعية مثلما تم التعارف عليها ضمن الحدود الجغرافية، علاقة الدم، اللغة، وما ينتج عن ذلك من أسئلة تطرحها حين تقف على تضاد مع معنى الأنا الحميمي، المعنى الأكثر فردانية، وهي مجموعته المكونة من: “خرائط”، 1986؛ “أسرار”، 1989؛ “هدايا”، 1989.

تلت ذلك مجموعة روائية أخرى عن تعقيدات الحرب والعشائرية والإسلاموية في الصومال، وتحمل عنوان “الماضي غير المميز”، وتشتمل على: “عُقد”، 2001؛ “روابط”، 2003؛ “عظام”، 2001.
هذا إلى جانب أعمال عدةّ في المسرح والنقد وكتابات اخرى متفرقة.

ضد النسيان
ينفتح المشهد الافتتاحي في رواية “الاختباء في العراء” برجل يُدعى آر يعود إلى البلاد بعد أن فرّ إلى الخارج حين اندلعت الحرب، ويبدأ العمل في مكتب الأمم المتحدة في مقديشو. يتلقى آر تهديدًا على ورقة مكتوب فيها كلمة “ديث”، وقبل أن يتضح لديه الأمر، تفجر جماعة جهادية المبنى مما يسفر عن مقتله. يسرد فارح قصة عائلة آر وأحزانها بفقده، “فحياة هؤلاء الناس يجب أن تسرد، فكل شخص قُتل تَرك شخصا يحبه.. شخصا كان يعتمد عليه”. بهكذا تعلن الرواية عن مغزاها؛ حراسة الذاكرة من النسيان.
تقول الرواية: “إن الموت ضيف متعجرف، يزور بأي وقت، دون أن يعلن بقدومه”، فكأن الكاتب كان يستوحي المستقبل قبل أوانه، إذ إنه لم يُنه المسودة الأولى من روايته للنشر حتى أنبئ بمقتل شقيقته في كابل عاصمة أفغانستان، في عمل إرهابي مشابه، وهي تعمل في مكتب الأمم المتحدة هناك.
تتتبع الرواية عائلة آر المكونة من شقيقته بيلا وطفليه الصغيرين دهبو وسالف، وزوجته المنفصلة عنه فاليري، وهم يحاولون إعادة بناء حياتهم من دونه في العاصمة الكينية نيروبي. ويقوم السرد من خلال مصائر هؤلاء الأشخاص بوضع خيوط متشابكة لمسارات متداخلة ومتقاطعة. ومن خلالها تنعقد مصائر الأبطال، وتتناسل من بعضها بعضاً، حيث لا يمكن للمرء، كما يقول السارد: “أن يتوقع أين تقوده الحكاية”.

الحب المحاصر
يبدي الروائي اهتمامًا في الكشف عن المضايقات التي يتلقاها الأناس ذوو السلوك المثلي في عالمنا الثالث، وتلك واحدة من الثيمات المفضلة لديه، ولا يكاد يخلو أي عمل من أعماله من مثليين يحاصرهم الحشد، السياسة، الدين، وماض لا يمضي. تقول الرواية على لسان فيرلا، أرملة آر الأجنبية، وهي مثلية السلوك: “لا يمكنك أن تكون حذرًا بما فيه الكفاية في بلد يحظر قانون الزواج من نفس الجنس. عليك أن تضع نفسك مفتوحة للابتزاز والاعتقال، في مجتمع يعتبر السلوك غير اللائق مرادفا للسلوك غير القانوني”. إن ملايين من مواطني أفريقيا يفتقدون الحرية، بكل أشكالها، فهذه المنطقة من العالم تقترن بانعدام الديمقراطية والحريات فيها، بما في ذلك الخيارات الجنسية، حيث يحشر الدين والمجتمع أنفيهما في كل صغيرة وكبيرة.
في مجتمع المحظورات، لا مكان للحب. تلخص هذه الجملة حياة أجيال كاملة في الصومال. فلا أحد يجرؤ على قول الحب، أن تظهر الحب يعني أن تدخل، أردت ذلك أم لم ترد، في صراع مع نظام الواحد الذي يؤسس للهوية والحشد، في مجتمع حتى الأزواج يلجؤون إلى استخدام كل الصيغ المشفرة لمناداة بعضهما. تقول الرواية إن “الحب هو اختيار بين اثنين، ولا يقل شأنا من اختيارنا للحاكم عبر الصندوق بحرية”.

تعدد في الهوية
شخصيات الرواية الأساسية آر وشقيقته بيلا من أب إيطالي وأم صومالية، وعاشا معظم حياتهما في إيطاليا، أيضا زوجة بيلا وعشيقتها أجنبيتان، بسبب ذلك يعاني الأطفال من الصدام بين هويّتين، أي بين عالمين وجغرافيتين للروح في الهوية ونمط العيش، فيكون لزامًا عليهم التوفيق بين هذه الاختلافات في بيت واحد.
إلى جانب ذلك، تتحدث الرواية عن المعضلة التي تواجه الشخص في الصومال إذا كان من دون انتماء عشائري، بيلا مولودة لأب إيطالي كاثوليكي وأم صومالية مسلمة، وتدين بالإسلام، لكنها بدون انتماء عشائري، في مجتمع يحدد وجودك وقيمتك في انتمائك العشائري. بالمختصر إنها نصف صومالية. وهي امرأة، في مجتمع ذكوري، تعرض لانتشار الأفكار المتطرفة فيه بشكل مروّع في العقود الأخيرة. تواجه بيلا بإلحاح: “ماذا يعني أن تكون صوماليا في هذا اليوم وفي هذا العصر؟”. تمتلك اسمين، وفي موقف دالّ تقول إنها تفضل اسمها الصومالي عندما تكون في خارج الصومال، وعندما تكون في داخل الصومال تفضل اسمها الأجنبي.

الماضي العلماني
لا يخفي الكاتب في حواراته الصحافية تعلّقه الشديد بالماضي العلماني للصومال، حين كانت الصومال دولة اشتراكية علمانية، وتنتشر فيها مظاهر التقدم والانفتاح. يبرز هذا التذمر على الماضي المفقود من خلال شخصية بيلا، التي يقول الكاتب على لسانها: “لا يوجد على وجه الأرض من هو أضيق أفقًا من المجتمع الصومالي. وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمرأة التي يختصرها الحشد والدين بطريقة لبسها ومشيها وجسدها”. تعاني بيلا في أسفارها إلى روما وتورونتو مع الصوماليين، عندما يرونها وهي تلبس الجينز أو هي تدخن، ويهاجمونها بالوعظ.
تقول بيلا: إن المجتمع الصومالي أخذ خطوة هائلة إلى الوراء، ليس فقط نتيجة للحرب الأهلية التي طال أمدها، بل أيضا لأنه أصبح متخلفا كثيرًا عن معظم البلدان الأخرى في مجال التعليم وغيرها من المعالم التي تقيس التقدم الاجتماعي.
حتى المدينة فقدت سحرها الخاص في ظل الاقتحامات المتكررة للمليشيات العشائرية المحلية في جنوب ووسط الصومال. ثم زاد دمار المدينة وخرابها اكتساح الغزو الأثيوبي، بناء على طلب من الولايات المتحدة. وأخيرًا جاء المتطرفون الجهاديون، لتصل الأوضاع إلى درجة عالية من البؤس.

المدينة الأفريقية ما بعد الاستعمارية
تدور أغلب احداث الرواية في نيروبي، بتركيز واضح على الصوماليين في كينيا، الذين يعيشون في مخيمات اللجوء، حيث أكبر مستودع بشري في العالم. يتحدث السارد عن العقاب الذي يعانيه الصوماليون هناك، في أعقاب التهديدات الإرهابية في كينيا المرتبطة بحركة الشباب.
في أثناء وجودها في نيروبي تتحدث بيلا عن الحي الذي تقيم فيه، وهو حي صغير على مقاس التخطيط الذي وضعه الاستعمار البريطاني في أواخر 1890، عندما تم بناء مستودع للسكك الحديدية على أرض مملوكة للماساي. صور من تلك الفترة تظهر خياما ضارية وأكواما أقيمت على عجل لعمال سكك الحديد. وحسبما قرأته بيلا، وأكد لها شقيقها آر وآخرون يعرفون المدينة جيدا، لم تتمتع نيروبي قط الكثير من الاستقرار في تاريخها، لأن الاستعمار البريطاني أخذ لنفسه تاريخيًا أفضل الأراضي، ودفع الأفارقة إلى أحياء عشوائية ليعيشوا في الأكواخ، ولم يحصلوا على أي نصيب من التخطيط الاستعماري الجديد، وبعد ذلك أصبحت تلك الأجزاء الفارهة مقرًا للمنظمات الدولية، ومراكزهم التجارية الكبيرة، وهي منظمات تقول الرواية إنها تشكل نمطًا جديد لاستعمار أفريقيا. واستمرت حالات عدم الاستقرار في الأحياء العشوائية التي يسكنها غالبية أهل البلد، مما يجعل نيروبي واحدة من أكثر المدن عنفًا في القارة، بسبب انتشار العشوائيات والممارسات الطبقية فيها. على سبيل المثال يُحظر شارع كامل من حركة المركبات لأن السفارة الإسرائيلية تقع فيه.

فارح: الصوت والصدى
يمكن لمن قرأ أعمال فارح السابقة أن يتوقع أحداث الرواية منذ الصفحات الأولى: مثليون ساخطون، وحوارات مثقلة بالتذمر. حتى الأطفال في الرواية يظهرون طافحين بالحكمة، وهم يتعاملون مع مسائلٍ في قدرٍ كبير من التعقيد.
إن كتابات فارح متّهمة في الوسط الصومالي بممارسة الازدراء لثقافته الأم، وهو بدوره لا يتواني عن التصريح بأن الصوماليين يكنّون له العداء والكراهية، لأنهم حسبما يقول لا يفقهون الحب واللطافة، بل يصل الأمر الى إعلانه في معرض إجابته لماذا يكتب بلغة أجنبية، بالقول بيقينية تثير الضحك: لا يوجد شخص صومالي قادرٌ على قراءة كتاب من الألف إلى الياء، فلماذا يكلف نفسه بالكتابة بالصومالية؟!
إنها حالة جفاءٍ متبادل بين الجانبين، يتبيّن ذلك من أن معظم أعماله مهملة وغير مترجمة إلى الصومالية. لكنه في المقابل يجد ترحابا كبيرًا من لدن الغرب وصحفه، ربما لانهماكه بالثيمات التي يفضل الغرب أن يسمعها عن العالم الثالث، امرأة مضطهدة، وشعوب متعصبة وبدائية! وثمة العديد من الكتاب يتشاركون معه هذه الخاصية. وأوّل مثال يخطر على بالنا هو سلمان رشدي الذي حاز إعجابًا لافتا في الغرب، لكنه لاقى استهجانا واسعًا من بلده الأم.

اظهر المزيد

صهيب محمد

كاتب وباحث صومالي، محرر مؤسس في موقع چيسكا (القرن).
زر الذهاب إلى الأعلى