سافانا الثقافي – التحولات المتسارعة في قنصلية الصومال، في زمن العولمة وقفزات التكنولوجيا، ووسائل التواصل التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، حيث تهدم الأسوار التي تحصن هويات الأمم وثقافاتها، كما تتلاقح ثقافات الشعوب، ويولد التواصل من العدم في كل حين، يصير الحفاظ على الهوية والموروث الثقافي غاية بالغة الأهمية في ظل التحدّيات التي تفرضها الحياة اليومية، وخاصة أهم عناوين الهوية ومرتكزاتها وهي اللغة، فإحاطة اللغة الأم بالعناية واجب لا يقل إلحاحا عن النمو الشخصي والتطور المتواصل، لأن اللغة هي وعاؤنا الرئيسي لنقل تجاربنا وعلومنا ووضعها بين أيدي الأجيال القادمة حتى يتسنى السير قدمًا في مراتب الازدهار.
التحولات المتسارعة في قنصلية الصومال
لا أزال استرجع شريط الطفولة، ولا زال قطار الذّكرى يحملني إلى زياراتي لقنصلية الصومال بمعية والدي، حتى أنّي كنت أُرافِقه وهو يسعى لمساعدة أصدقائه والتعامل بحكمة مع القضايا القانونية المعقدة، وكان مقرّها في شارع الصومال، وشارع مقديشو بحي البغدادية بجدة، ثم كان انتقالها إلى مبنى مهجور في حي عنيكش بعدما لعبت في بنايتها أنامل التغيير عبر الزمن، وأنا صبي لم أبلغ الحلم، كانت تتجلّى لي القنصلية فقيرة إلى الاحترافية، بحيث كان على المواطنين التعامل مع أشخاص خارج المقر الرّسمي ودفع مبالغ طائلة لإتمام إجراءات قانونية بسيطة.
وكل ذلك صار ضربا من الماضي وطوته الذكرى بعدما تغيّر المشهد وشهدنا تحولات ملحوظة في القنصلية وفي أدائها مهامّها اتجاه المغتربين، وفي مبناها الجميل بحي الحمراء أحد أفخم أحياء مدينة جدة والذي اتخذته مقرا لها اليوم، ومما يُحسب للقنصلية هو حدث أذكر تفاصيله بدقّة فقد ألجأتني الحاجة في أحد الأيام إلى زيارة القنصلية في ساعات الليل المتأخّرة لتصديق بعض الأوراق الهامة في وفاة أحد أقاربي، ويومها كان الحارس يقظاً ومتعاوناً إلى حد بعيد، مثل هذا التّصرّف، كان ضربا من المحال فيما مضى وهو ما يُبرز التحسن الذي طرأ على القنصلية وعلى جودة خدماتها.
تحديات الحكومة الصومالية للإرتقاء
اليوم تواجه الحكومة الصومالية تحديات عديدة على أصعدة عدّة، وتسعى بخطى حثيثة للتغلب عليها ومنها تحسين أداء العاملين في القنصليات، وفي ركب التغيرات المتسارعة التي ترسم نقوشها على جدران قنصلية بلدي، يتجلّى الدور المناط بالسفارات والقنصليات في بسط يد العون لرعاياها في الخارج، وفي توطيد العلاقات بين الدول عبر عمل تشاركي لا خاسر فيه، فهي حلقة الوصل بين المغتربين ووطنهم، ومهمتها تتجلى في المساعدة والدعم في مختلف المجالات القانونية والثقافية والتعليمية وغيرها.
ومع استمرار التّطور التكنولوجي والاقتصادي على الصعيد العالمي، بات من الواضح أن القنصلية تسعى لتبنّي أساليب عمل حديثة ومبتكرة لتلبية احتياجات رعاياها على أفضل شكل لكن، ورغم كل التقدم والتحسين في عمل القنصلية، ينبغي تسليط الضوء على الثقافة والتراث الوطني والسعي بشتى الطرق للحفاظ عليه. وإن اتفقنا على أن اللغة الصومالية تعكس هوية شعبها وأصالته فسيكون من الأساسي على المغتربين الصوماليين ليس فقط الحرص على تعلّمها بل والتواصل بها مع أبناء وطنهم حتى يدرك من ينشأ على حروفها عمق حمولتها الثقافية.
قد يعجبك : رؤية جريئة للروائي نور الدين فارح عن الهوية الصومالية المفقودة
لماذا تبدو لغتك الأم ضعيفة؟
في تجربتي الشخصية شاهد على الحرج الذي ينتاب المواطن المغترب الذي يكتشف نقص خبرته في لغته الأم وذلك حين قررت زيارة قنصلية بلدي لتجديد جواز سفري، واستقبلتني موظفة هناك بدأت الحديث معي والابتسامة تعلو شفتيها ولم يمضِ وقت طويل حتى طرحت عليّ سؤالًا مزعجًا أذهب كثيرا من حرارة التواصل بيننا: “لماذا تبدو لغتك الأم ضعيفة؟”… في البداية، تملّكتني الحيرة والدهشة من سؤالها فكيف لها أن تطرح عليّ سؤالًا شخصيًا كهذا؟ وبالرغم من عدم الرضى، عزمت على الإجابة بصدق وشفافية، وأوضحت لها كيف أني أفنيت أكثر أيام حياتي في الخارج، وأن لغتي الأم لم تعجنها الخبرة ولم تتشرّبها مخارج حروفي بين أزقة الصومال.
وعلى الرغم من أنني قد حاولت جاهدا المحافظة عليها عبر التحدث بها مع أسرتي وأصدقائي ومتابعة الأخبار والأفلام الوطنية، إلا أن كل المجهود المبذول بقي قاصرا لم يُبلّغني نيل المراد وكان عاجزا عن جعلها قوية وواضحة كما ينبغي، ورغم أن السؤال كان مزعجًا وشخصيًا، إلا أنه دفعني إلى التفكير في أهمية اللغة الأم وكيف يمكنني تعزيزها، وأدركت بعد حين أنني لست الوحيد، فالعديد من الأشخاص الذين تلهو بهم الغربة في الخارج يواجهون التحديات نفسها في الحفاظ على لغتهم الأم ويتقاسمون معي الشعور ذاته.
تلك التجربة مع فتاة السفارة كانت بمثابة تذكير لي بأهمية الحفاظ على جذورنا وهويتنا حتى وإن كنا نعيش في بلد آخر وندوب في مجتمع الغربة، ورغم أن السؤال المزعج قد آلمني في البداية، إلا أنه كان دافعا لي في النهاية على تعزيز اتصالي بلغتي الأم و بثقافتي وجعلتني أنتقل إلى مستوى آخر من التفكير، فأنظر إلى حال الشباب الصومالي ومدى انصهارهم في المجتمع السعودي، وكيف يتعرضون لتأثير الثقافة السعودية ويتبنون بعض عاداتها وتقاليدها، ولعل في ذلك فرصة لهم لتعلم وتقدير المجتمع السعودي، إلا أن أكبر السلبيات تكمن في التأثر المبالغ فيه في الآخر مما يؤدي إلى تناقضات بين الثقافة الصومالية والثقافة السعودية ويكون سببا للارتباك بين الشباب الصومالي ويهوّن من الهوية الثقافية الصومالية في النفوس.
هل ينبغي أن نلوم الشباب الذين تعلّموا العربية أكثر من الصومالية؟
وهنا يراودني سؤال ملحّ هل ينبغي أن نلوم الشباب الذين تعلّموا العربية أكثر من الصومالية؟ في عالم يتحدث العربية بشكل متزايد؟ علينا ألا ننكر أن التّعلم والتكيف مع البيئة المحيطة هو مفتاح النجاح والتقدم، ولكن لا شك أيضاً أن لغتنا لبنة أساس في بناء هويتنا وثقافتنا، والحفاظ عليها وتعلمها يساعدنا في مد أواصر القربى مع أصولنا وتعزيز انتمائنا الوطني، ومن الحسن أن نتعلم من تراكم التجارب وأن نستخدم كل ما يفتح أمامنا فرص النمو والتطور الشخصي واللغة الأم كما هو معلوم ركيزة أساس في هويتنا وتراثنا، ومن أوجب واجباتنا الحفاظ عليها وتعزيزها حتى تتفنّن براعمها عند الأجيال القادمة.
كما إن السفارات والقنصليات لها الدور الأهم في دعم هذا الجانب وهو دور بالغ الأهمية في الحفاظ على هويتنا الثقافية وتعزيز الوعي حولها قضايا الهوية وبهذا يمكننا غرس حب اللغة والتراث في قلوب الشباب الذين يندمجون في مجتمعات متنوعة، وعلينا ألا نغفل أننا نحن أيضا مطالبين بهجر السكون والانتقال إلى دائرة الفعل والتّحلّي بالإصرار والعزيمة للحفاظ على لغتنا وتعزيزها في حياتنا اليومية. فعلى كل فرد منا تحمل مسؤولية الحفاظ على لغته وتعزيزها وذلك يكون بجهد فردي إضافة إلى العمل التشاركي وعبر إصرار متواصل وعزيمة قاهرة للصعوبات، فهكذا فقط يمكننا ترك إرث نفخر بتقديمه للأجيال القادمة.
تم نشر هذا المقال عام 2017م في صفحة الكاتب على الفيس بوك وأعيد نشره عام 2023م في موقع سافانا
إقرا المزيد: