سافانا الثقافي – السفارة الصوماليّة وعالم الظلّ: مأساة الهويّة الثقافية المنسيّة، في هذا العالم الذي تُنسَج فيه خيوط التواصل حتى تحوي جميع الأقطار، تتشامخ الأهمية في تعزيز اللغة والثقافة الوطنية لجميع الدول، ويكون الأمر أكثر إلحاحا عند الجاليات التي تتخذ من الغربة وطنا، والتي تفني الأعمار في بلدان أجنبية، وفي مثل هذه الظروف يُناط بالسفارات والقنصليات دور مهم لتنظيم عدد من المبادرات والفعاليات الثقافية والتعليمية حتى تبني أواصر القربى بين الأفراد قبل أن يذوبوا في ثقافة الغير وسنسلّط في هذا المقال بصيصا من النور على ما يمكن للسفارات والقنصليات المساهمة به وبشكل فعّال حتى تعزيز اللغة والثقافة الوطنية بين مواطني الغربة، منطلقين من قنصلية الصومال التي آثرنا إلا أن نتخذها نموذجا.
مأساة الهويّة الثقافية المنسيّة
يتجلّى وفي غير خفاء على أعمى، أن السّفارة الصومالية وقنصلياتها قد ارتدتا قبعة الإخفاء، أو على أقلّ تقدير يمكن القول أنّهما رضيتا بدور هامشي في عالم الدبلوماسية في المملكة العربية السعودية، فقد آثرتا ملازمة الظل وقنعتا بالحجاب، ومع الشباب الصومالي كل الحقّ إن تساءل: “أين هي الأنشطة الثّقافية التي تنظّمها سفارة بلدي؟ خاصة وهو ينظر إلى توهّج عدد من السّفارات والقنصليات التي تغني الحقل الثّقافي بأنشطة وملتقيات تعليمية طيبة الصدى.
وفي المقابل، تتوارى السفارة الصومالية خلف ستار طويل يغيّبها عن العالم وعينها كليلة عن المواطنين الصوماليين الذين تعضّهم الغربة بِنابِ البُعد في السعودية فيعيشون في ظروف يتيمة بلا دعوات لأمسيات ثقافية أو ندوات تعليمية ترفع منسوبهم الفكري، أو على الأقل تُحيي موات ثقافتهم الأصلية. لعلّ السفارة الصّومالية لم تطّلع على البرقية التي أرسلتها الحكومة السعودية لسفارات الدول المقيمة لديها المتعلقة بمسؤولياتها الثقافية والاجتماعية اتجاه أبناء الوطن؟…
سأنزع عنّي لباس الــمُنتقد، فأتكلّم بلطف، وأُخمّن في لين، ثم أُحسن الظّنّ وأقول ربما تكون خلف هذا التّجاهل أسباب وجيهة ومن يدري لعلّ جميع موظّفي السّفارة والقنصلية في شغل يستنزف عامّة وقتهم فلا يفضل عنهم إلا نزر يسير يقضيه أحدهم في أشغال بيته ليذوب في مشاغل الحياة، أو لعلهم يتبعون استراتيجية مبتكرة لتعزيز الثقافة الصومالية من خلال الغياب عن الساحة فاسحين المجال للشباب كي يدرك غايته في البحث عن الثقافة والهوية الوطنية دونما حاجة إلى وساطة أو وصاية تكبّلهم بسلاسل الرّسميات، لعلّهم أتباع المذهب القائل: “بعضُ الغياب حضورٌ” ويقول لي أحد الأصدقاء أنه أقام في مصر خمسة أعوام، وأتبعها بعشرة في ماليزيا، وأربعة في وكينيا، ثم ختم الرحلة بعشر في السعودية.
وخلال تلك المدّة المتراخية في الزّمن، وعلى اختلاف البلدان والسفارات والموظفين إلا أنّه لم يتلقّ يوما دعوة واحدة من سفارة بلده ولا صلة بينه وبينهم عدا ما تقتضيه الحاجة من تجديد لجوازات السفر وإعداد لتلك الحزمة من الأوراق التي لا يستخلصها المرء حتى يخرج من السفارة منفوخ الريش مزهوا وكأنّه أحرز كأس العالم، تخيّل أن تقيم مدة خمس وثلاثين سنة بالغربة دون أن تقع ولو بالصّدفة على أثر مهما كان يسيرا للثقافة في قنصلية بلدك، أو حتى على رسالة نصية يباركون لك اليوم الوطني الصومالي.
مبادرات السفارات للثقافة والفنون:
في عالم السفارات والقنصليات المليء بالأضواء والثقافة والفنون، تُغرّد سفارتنا خارج السّرب، وتسحبُ فوقها تراب النّسيان كي تُنسَى وتُنسِي معها تاريخ وثقافة بلد عزيز، تلك المؤسسة الحكومية النبيلة التي تسعى جاهدة لتحقيق الاندماج الكامل مع الظلام حتى تطمس كل معالم الهوية الثقافية والتراث الصومالي وتلقيه بعيداً عن أعين الأجيال الصاعدة، ولعلّهم منشغلين حتى النّخاع بالتفكير في الاحتفال بيوم الثقافة الصومالية الذي يولد ميتا، ولا شكّ أن السّفارة الصومالية قد عشقت “الظّل” الذي تُقيم فيه منذ الأزل وجعلته ملاذًا تكنز فيه جميع البرامج الثقافية والفعاليات الملهمة التي هي مفخرة بالهوية الوطنية للشباب الصومالي، أو لعلها تنتظر اللحظة المناسبة لتطلق العنان لدفين الكنوز كي تذهل العالم بروعة ثقافتها وتُميط اللثام عن سحر بلد جريح.
وإلى ذلك الحين، سنحتسي فناجين القهوة السوداء بلا سكر وننظر إلى بدر التمام كي نبُثّه الأحزان ونحن نتطلع في صمت وشوق إلى صباح بعيد، لا يسعنا إلا أن نحيّي السفارة الصومالية على تمسكهما بالغموض والتّجاهل، وعلى قدرتهما على تحمل الضغوط الثقافية والمطالب الدّائمة بالتغيير، ولعلها ستفاجئ الجميع وتتحول إلى مصدر إلهام للشباب الصومالي المقيم في الغربة في غد قريب.
وفي انتظار اليوم الموعود، سنواصل الضحك ونحن نتساءل عن هذه التوجيهات الغريبة والسياسات المحيرة التي تتبعها السفارة الصومالية في عالم الدبلوماسية، في هذا السياق الفاتن، يمكننا أن ننظر بعين البصيرة لا البصر إلى السفير الصومالي لنجده جالسا على مكتبه الأنيق مع كراسي فاخرة وصور تُميط عنها يد عاملة التنظيف تراب الإهمال نهاية كل أسبوع، وكتب ثقافية غير مقروءة تلهو بها أنامل العبث لتلقيها في كل مكان، وجوائز تنتظر فائزا في مسابقة لن تقام، ونراه هناك مع معطفه الأسود وربطة عنق مناسبة يتأمل مجد العمل الدبلوماسي الذي يقوم به أكثر من سعيه لاحتواء شباب الوطن.
وبينما تورق شجرة الثقافة والهوية الوطنية في باقي السفارات والقنصليات المجاورة، يفني السفير الصومالي يومه في الفراغ مستمتعا بقهوته المُحلاة بقطع الغموض والتجاهل، ومعتزًا بالدور الفريد الذي يقوم به، والذي لا يستطيع أحد أن يخلفه فيه، وبينما يطبع سفير دولة ما ابتسامة عريضة على شفتيه حين يلتقي بشباب وطنه ويسمع لأفكارهم وطموحاتهم، يبقى سفيرنا الصومالي المُبجّل متكاسلا، غارقا في بركة السكون والهدوء، منتشيًا برؤية الشباب الصومالي وهم يبحثون عن هويتهم الضائعة في متاهات الحياة، وربّما في يوم من الأيام تنشقّ الأرض عن المعجزة وتنقشع غيوم الظلام والتجاهل عن السفارة الصومالية فتكون كقريناتها وتنضم إلى المسيرة المبهجة للثقافة والفنون.
وحتى ذلك الحين، سنظل كغرباء نراقب من بعيد ونلقي حزم الأسئلة عن الأسرار التي تحملها سفارتنا المكرّمة، ثم لا نجد إلا أن نضحك على واقعنا المرير والمُريب. لعلّ رياح التّغير تهب خفيفة في صباح يوم مجهول على بناية السفارة، فتُحيل ظلام السكون إلى نور، فيفتح سعادة السفير الأبواب كي تعبر شمس المعرفة والثقافة كي تُنير عقولا طواها النسيان، وحتى تغذي أرواحا شحب لونها عقب الفراق عن الوطن. فهل الغد إلى ناظره قريب؟ أم هي أضغاث أحلام بلا تأويل وسرعان ما تنقشع سحابة الأمل ليتلقّانا الواقع بجيوش من اليأس تنزع الرجاء من القلوب؟
في انتظار يوم لا يأتي، سنتسلى بمشاهدة المسرحية الساخرة التي تتفنّن في عرضها السفارة الصومالية والقنصلية الصومالية، وسنصفق لتبادلهما الأدوار ورقصهما على ذات الحبل كي يسترسلا في تجاهلهما للثقافة والهوية الوطنية. وسنحاول جاهدين أن ندرك غاية هذا التجاهل لعلّنا نقع في طريق البحث على سبيل رشيد يشفع لهما عند أبناء الوطن. نأمل رغم الوضع الساخر والمحزن في الآن ذاته لهذه السّفارة والقنصليات التابعة لها، ونبتهل في محراب الخشوع لعلّ دعوة تُصيب كي ينقلب الحال ويُشرع باب تعزيز الهوية والثقافة الصومالية بعدما أصبح لزاما منح فرصة للشباب الصومالي بالخارج ليطّلعوا على تراثهم وعراقة تاريخهم، ولكم رجوت في صغري ولا زلت إلى الساعة أن تتأسّى سفارتنا الموقرة بمن سلف بمثيلاتها الأخرى المتواجدة على الأراضي السعودية، فتسلك طريق السفارة الإرترية والأثيوبية مثلا، وتسعى جاهدة حتى تقتفي أثرهما وتنظر في صلاح دورها حول تعزيز الثقافة والهوية الوطنية، فيبدأ قلم التاريخ في نسج خيوط قصص النّجاح.
وحتى ذلك الحين، سيظل الشباب الصومالي في الخارج ينتظر بما تبقّى في خزينته من صبر ذلك اليوم الذي تنتبه فيه سفارة بلادهم وقنصليتها إلى الثروة الثقافية التي يمكنها أن تكون جزءًا منها. وحتى لا نقف كالعاجزين، لعلّنا نحسن الصنيع بدعوة السفارة الصومالية للاستفاقة من سباتها واللحاق بركب النجاح والتألق في مجال الثقافة والهوية… سؤال يراودني دوما، وإلى الساعة لا يزال دون جواب بليغ: ما هي الأسباب الداعية لتجاهل السفارة الصومالية للثقافة والهوية الوطنية؟ إنّه لمن العسير أن نسعى خلف الجواب دون دراسة تبلّغنا المقصد حول هذا الموضوع. ومع ذلك، يمكن أن نستشفّ العوامل المحتملة القابعة خلف المشكلة:
الأولويات السياسية والاقتصادية:
قد يكون لدى السفارة والقنصلية الصومالية تركيز أكبر على القضايا السياسية والاقتصادية بدلاً من الثقافة والهوية الوطنية. ولعلّ الدبلوماسيين يسعون إلى تحقيق الاستقرار السياسي وتعزيز التعاون الاقتصادي مع الدول المضيفة وتغليب تلك المصلحة على توطيد الثقافة.
نقص الموارد:
قد يكون لدى السفارة والقنصلية الصومالية موارد محدودة (مالية، بشرية، إدارية) تمنعهم من تنظيم الفعاليات الثقافية والبرامج التعليمية التي ترقى إلى المستوى المحمود.
التركيز على القضايا الداخلية:
بالنظر إلى التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه الصومال داخليًا، قد يجد الدبلوماسيون الصوماليون أنفسهم رهنًا للتركيز على تلك القضايا بدلاً من العمل على تعزيز الثقافة والهوية الصومالية في الخارج.
مشكلة في القيادة أو الإدارة:
قد ينتج التّقصير عن مشكلات في القيادة أو الإدارة داخل السفارة والقنصليات الصومالية، وهو ما ينعكس سلبا على القدرة على تحقيق الأهداف الثقافية بشكل فعال، وتنبغي هنا الإشارة إلى أن ما أسلفنا ذكره مبني على نزر يسير من المعلومات المتوفرة، ومن المحتمل أن تكون هناك أسباب أخرى تحول بين السفارة وبين ما تشتهي. ولفهم الأسباب الحقيقية وراء هذه المشكلة سيكون من الإنصاف إجراء دراسات وتقييمات أكثر دقّة في إطار من التعاون مع الشركاء المتداخلين.
على كل القنصليات أن تقوم بما أُنيط بها من دور حاسم في تعزيز اللغة الأم والثقافة الوطنية بين المواطنين الذين يعيشون في الخارج، وثمّة سُبل شتى يمكن للسفارات والقنصليات عبرها تحقيق الأهداف المرجوة لعلّ من بينها تنظيم الأنشطة الثقافية، إذ يمكن للسفارات تنظيم العديد من الفعاليات والجوائز التي تعزز اللغة الأم والثقافة الوطنية، مثل عروض الأفلام والمسرحيات، وورشات العمل حول الأدب والفنون والمناقشات الثقافية والأدبية وغيرها كثير من التظاهرات التي تفيد الغرض نفسه إضافة إلى:
السعي إلى تعليم اللغة الأم:
إذ من المُتاح للسفارات والقنصليات التابعة لها إعداد دورات لتعليم اللغة الصومالية للأطفال، ولم لا حتى البالغين الذين حالت بينهم صروف الدهر وبين إتقان لغتهم؟ ستساعد هذه العملية ودون شك في تعزيز وإتقان اللغة الصومالية إضافة إلى صونها للأجيال القادمة.
تشجيع التواصل بين أفراد الجالية:
تنظيم النشاطات والتجمعات الاجتماعية خاصة خلال المناسبات الوطنية والدينية غاية من ثمارها تشجيع التواصل بين أفراد الجالية يمكن للسفارات والقنصليات العمل عليها وهو مما سيسمح للأشخاص بالتحدث بلغتهم الأم وتبادل الخبرات والتجارب ويجعلهم يشعرون كما لو أنهم في وطنه الأصلي.
دعم المؤسسات والمبادرات الثقافية:
إن عملت السفارات والقنصليات على دعم المؤسسات والمبادرات الثقافية فسيكون ذلك تعزيزا للغة الأم والثقافة الوطنية في الخارج ويحصل ذلك من خلال توفير الموارد والتمويل اللازم وحتى عقد شراكات مع الفاعلين ومصاحبتهم لما فيهم الصالح العام.
إقامة المعارض الفنية والتصويرية:
عرض أعمال الفنانين الصوماليين والصور الفوتوغرافية التي تبرز جوانب متعددة من الثقافة الصومالية والتراث.
إقامة الأمسيات الأدبية والشعرية:
تنظيم قراءات شعرية وأدبية للكتاب والشعراء الصوماليين، وإقامة حلقات نقاش حول موضوعات ذات صلة بالثقافة والأدب الصومالي.
الاحتفال بالأعياد والمناسبات الوطنية:
إقامة فعاليات للاحتفال بالأعياد والمناسبات الوطنية الصومالية، مما يساهم في تقوية الروابط بين أفراد المجتمع الصومالي والمحافظة على تقاليدهم.
عبر تلك الجسور التي أسلفنا ذكرها، تنهج السفارة الصومالية دربا طويلا لنشر الثقافة الصومالية وتعزيزها بين الجالية الصومالية والمجتمعات المضيفة، وتسهم بناء عليه في تعزيز التفاهم المتبادل والتعاون بين الشعوب، وسنكون غير منصفين إن ختمنا هذا المقال ونحن غافلين عن كل تلك التحوّلات المتسارعة التي شهدتها قنصلية الصومال على مر السنين وعلينا ألا نزدري الجهود الحثيثة التي يبذلها موظفوها لخدمة مواطنيهم. ونأمل أن تستمر هذه التطورات والتحسينات في المستقبل لتحقيق أهداف القنصلية وتعزيز العلاقات بين الصومال والدول.
تم نشر هذا المقال عام 2014 في صفحة الكاتب على الفيس بوك وأعيد نشره عام 2023م في موقع سافانا
إقرا المزيد: