سافانا الثقافي – “الشاي الصومالي”مذاق ثقافة وصدى حكايات الجوالين، في أحد شوارع حي إيسلي بنيروبي، عاصمة كينيا، وبين زوايا الشوارع المزدحمة تجلس بائعات الشّاي الصوماليات، تتجاذبن أطراف الحديث عن القديم والحديث وحولهن تطوف النسمات حاملة رائحة التوابل العطرة والحليب المبخّر الغني الممزوج بشاي يتدفّق مثل السكينة على قلب مؤمن قانت… تلك البائعات المتواضعات لا يدركن مدى تأثيرهن على الحياة.
يجهلن تماما أنهن يشيدن جسورا من الشاي تربط بين الثقافات والأشخاص، وتوُحد بين القلوب في لحظات تمتزج فيها الحياة بكل تفاصيلها مع الخيال بعامة تجلّياته. ينسجن بين أيديهن خيوط البيع والشراء كما يعتقدن، لكنهن يخطن في الآن ذاته أواصر علاقات اجتماعية تستمر إلى الأبد، تقدمن مشروبا مع ابتسامات تجُدن بها بالمجّان في كرم حاتمي على كل زائر فيجمع مشروبهن بين الثقافات ويصنع لحظات من التآلف والتواصل بين القلوب.
تتوارى خلف أعينهن قصص لم تروَ، وحكايات من السعادة والشقاوة ومن الحب والكره حياة مديدة من المتقابلات يحملنها بصمت ثم يسردنها للعابرين دون سؤال مع نكهات الشاي الفريدة والمميزة، وهن فنانات لا يعرفن إلا لغة الحب والتفاهم المتجلي في كوب من الشاي الصومالي الساحر وهن السّاحرات، وعلى الأرصفة تنبعث روائح الشاي المعتّق بالتوابل والحليب المبخر المكثف، محاكياً ألوان الحياة وتنوعها.
تُذكّرنا بإيقاع السرور البسيط واللحظات المشتركة التي تجمعنا كبشر ومع كل رشفة ينبض قلب الشارع بالحياة، تتداخل معها أصوات الباعة والمارة وأحاديث الجالسين حول الأكواب الدافئة وتبقى بائعات الشاي الصوماليات نبراسا منيرا لطريق الأمل، فهن القادرات على الجمع بين الناس مهما كانت خلفياتهم وثقافاتهم في عالم يحتاج إلى المزيد من اللحظات الدافئة والمشتركة.
في الصومال كما في المهجر، يمارس الصوماليون تقليدا اجتماعيا يُسمى “الشاي العصاري” (A-sar-iyo)، أي الشاي الذي يتم تناوله بعد الظهر أو بعد صلاة العصر. عادةً ما يتم تقديم كوب من الشاي المتبل أو “الشاه” ويعد هذا التقليد فرصة للراحة والسكينة والتواصل مع الآخرين قبل استنزاف بقية اليوم.
سر الخلطة المميزة
ما يجعل خلطة الشاي الصومالي فريدة هو الحليب المبخر الذي يدخل في أصل تكوينها ويضفي نكهة على المشروب تنقل المُحتسي إلى عوالم مختلفة، فمع كل رشفة تذوب معالم الزمن ويختلط الحاضر بالماضي ليمتزجا بالمستقبل ثم تطيش الأفكار في أماكن شتى وأزمنة عديدة. تتم إضافة مجموعة من التوابل المعطّرة كالهيل والقرفة والزنجبيل والقرنفل إلى الشاي، لتعزيز نكهته وجعله مختلفا عن باقي أنواع الشاي.
تقديم الشاي مع الحليب المبخر سمة خاصة بأهل الصومال يتفرّد بها هذا البلد…أذكر حين كنت بجوار سيدة أربعينية وأنا آخذ حاجتي من الشاي فقالت في حديث ودّي ودون حاجة إلى تلك المقدّمات الركيكة من التعارف والتحية التي تعيق التواصل وتغرقنا في الشكليات: “أحب الشاي الصومالي الذي تقدّمه البائعات في شوارع نيروبي، لقد أدمنته منذ أن جربته لأول مرة قبل عشر سنوات. لا شيء يضاهي نكهة الشاي الصومالي المحضر بالحليب المبخر والتوابل الرائعة، لقد صار تناوله طقسا يوميا لا أحيد عنه كأنّه ورد يومي لإمام ملازم لبيت الله.
ثم أضافت تحيي المرأة البائعة ” أسانتي سانا” (شكرا بالسواحلية). ثم أضافت: “لقد نشأت على تناول الشاي الصومالي في قريتي، ولا يمكنني تخيل بدء يومي بدونه. إن الشاي الذي تقدمه البائعات في الشوارع يجعلني أشعر بالحنين إلى الوطن ويذكرني بطفولتي في قريتي”. تلك قصّة لها ملايين من الشبيهات.
عند دعوتك لتناول “A-sar-iyo” “شاي عديس” في منزل صومالي، لن تُسأل عن الطريقة التي تحب وفقها الشاي. بل سيُقدم لك على أفضل هيئة لدى الصوماليين غنيا بالتوابل والسكر، وعادة ما يتم إضافة الهيل لمنحه رائحة طيبة، هذا ويُعتبر الشاي الأسود المُتبل ركنا لا محيد عنه في المطبخ والثقافة الصومالية، وهو مأخوذ من شاي اليمن وكينيا والهند، أما إضافة الحليب إلى الشاي الصومالي فسمة أخرى مميزة، ولكل خلطة اسمها فمثلاً، يُسمى الشاي مع الحليب “shaah cadays” ويُقدم في “العصاري”، بينما يُسمى الشاي بدون حليب “شاي رينجي” ويُقدم عامة اليوم. ويعتبر الليمون والهيل والزنجبيل والقرنفل والقرفة أفضل ما يضاف إلى الشاي الصومالي.
يعدّ الشاي في الصومال جزءاً أصيلاً من وجبة الإفطار وعنصراً أساسياً على المائدة الرمضانية، بالإضافة إلى أنه مشروب الضيافة الذي لا تحلو الجلسة إلا معه، أما شهرة الشاي الصومالي فقد تضاعفت نتيجة تمسك الصوماليين به في الشتات، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعيش جالية صومالية كبيرة، قد يكون هذا السبب وراء اهتمام صحف مثل “واشنطن بوست” بالكتابة عن الشاي الصومالي وتسليط الضوء على طقوسه وطرق إعداده.
ففي مقال نشرته الكاتبة الصومالية أفراح أحمد بالصحيفة الأمريكية المذكورة سابقاً، أوضحت أن “الشاي العصاري” يتم تناوله عندما تكون شمس الظهر في ذروتها وتغطي كل شيء بأشعتها، مما يجعله “طقس الراحة” بالنسبة لها وللصوماليين في جميع أنحاء العالم.
نعود إلى بائعات الشاي الصومالي في شوارع نيروبي، ففي الأيام التي تهطل فيها أمطار نيروبي بغزارة ويعانق البرد أجساد العابرين على عجل، فيتحول الشاي الصومالي إلى ملاذٍ دافئ يشعل الحياة مجددًا في القلوب، فتزداد روائح التوابل العطرة قوة وجاذبية، وتتراقص مع نغمات المطر الهادئة المتساقطة على أسطح المنازل والأرصفة، يجتمع الناس في هكذا وقت حول بائعات الشاي بحثًا عن الدفء والراحة والشعور بالانتماء.
يتشاركون الأحاديث، ويتبادلون الضحكات والهمسات تحت المظلات المتواضعة، متناسين رذاذ المطر والبرد القارس فيشعر كل فرد بأنه جزء من عائلة كبيرة متجانسة بفضل نكهات الشاي وقوة التواصل الإنساني، أمام هذا المشهد البديع، تضفي قطرات المطر سحرها على الشاي الصومالي، فينقلب طعمه ويصير في حين مكملًا لألحان الطبيعة ورقصة الأمطار على نافذة الزمن يعزف الشاي والطقس سويًا أغنية الحياة وترنيمة الوئام والتآلف، ويمتزج الحاضر والماضي والمستقبل في لحظات لا تنسى فتبرز بائعات الشاي الصوماليات كمنارات تضيء الطريق نحو المودّة والتضامن، ملهمات القلوب بصفتهن سفيرات الدفء والمحبة.
وصفة بسيطة لتحضير كوب دافئ من الشاي الصومالي بنكهة التوابل والحليب المبخر:
المكونات:
- 2 كيس شاي أسود أو ملعقتين كبيرتين من أوراق الشاي الأسود
- 2 كوب ماء
- 1 كوب حليب مبخر (يمكن استبداله بحليب طازج)
- 1/4 ملعقة صغيرة من الهيل المطحون
- 1/4 ملعقة صغيرة من قرنفل مطحون
- 1/4 ملعقة صغيرة من القرفة المطحونة
- سكر حسب الذوق
الطريقة:
- في إناء صغير، ضع ماء الشاي وأضف الهيل المطحون والقرنفل المطحون والقرفة المطحونة. اترك المزيج على نار متوسطة حتى يغلي.
- بعد أن يغلي الماء، أضف أكياس الشاي أو أوراق الشاي الأسود واتركها تنقع لمدة 3-5 دقائق حتى تتحول الخلطة إلى لون ذهبي داكن.
- أضف الحليب المبخر (أو الحليب الطازج) إلى الخلطة واخلط جيدًا. اترك الشاي على النار حتى يغلي مرة أخرى.
- بعد أن يغلي الشاي مرة أخرى، قم بتحلية الشاي بالسكر حسب الذوق واتركه على النار لمدة دقيقة أخرى.
- استخدم مصفاة لتصفية الشاي من التوابل وأوراق الشاي، ثم صب الشاي الصومالي في أكواب التقديم.
باستخدام هذه الوصفة البسيطة، يمكنك تذوق نكهة الشاي الصومالي في راحة بمنزلك ومشاركة تجربة الشراب الدافئة مع أحبائك.
إقرا المزيد: