سافانا الثقافي – مهاتما غاندي، الذي يعدّ واحدًا من أعظم الزعماء والمفكرين في التاريخ، له إرث عظيم ومعقد في مجال الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية، ويتميز نضاله من أجل استقلال الهند وسلامها بالسلمية والتفاني، لكن مواقفه لم تكن خالية من التناقضات والتعقيدات، خاصة فيما يتعلق بعلاقته مع المجتمع الإفريقي.
في بدايات حياته المهنية، عاش غاندي في جنوب إفريقيا وعمل كمحامٍ وناشط مدني. خلال تلك الفترة، كتب عدة تصريحات تعكس آراءه العنصرية تجاه الأفارقة. ومع ذلك، لم يتم إلقاء الضوء على هذه التصريحات في ذلك الوقت بسبب الوضع الاستعماري والتمييز العنصري الذي كان سائدًا في جنوب إفريقيا.
على مر السنين، تطورت آراء غاندي وتصرفاته بشكل كبير. بعد عودته إلى الهند، أصبح قائدًا رئيسا في حركة استقلالها وركز جهوده على المساواة والعدالة الاجتماعية لجميع الطبقات والأعراق. ومع ذلك، لا يزال النقاش حول تصريحاته العنصرية السابقة وتأثيرها على إرثه مستمرًا حتى اليوم.
حياته:
مهاتما غاندي، ولد في 2 أكتوبر 1869 في مدينة بوربندر بولاية غوجارات الهندية والده كارامشاند غاندي، كان رئيسًا للمجلس الإداري في الولاية، وعلى الرغم من أن عائلته كانت تتبع الطبقة الوسطى، إلا أنهم كانوا مؤثرين سياسيًا كما تعلم في المدرسة المحلية حيث تعرض لنظام التعليم التقليدي الهندي ولكنه لم يتفوق، في عام 1888 غادر إلى إنجلترا لدراسة القانون والتحق بجامعة لندن، وهناك تعرض للثقافة الغربية وقام بتبني بعض عاداتها مثل ارتداء الملابس الغربية وتعلم اللغة الإنجليزية.
بعد عودته إلى الهند في عام 1891، بدأ غاندي ممارسة المحاماة ولكنه لم ينجح في تحقيق النجاح المهني. في عام 1893، قبل عرضًا للعمل كمحامٍ في جنوب إفريقيا. وخلال فترة إقامته هناك، تعرض غاندي للعنصرية والتمييز العنيف بسبب جنسيته ولون بشرته.
العودة إلى الهند والنضال من أجل الاستقلال
عاد غاندي إلى الهند في عام 1915 وانضم إلى الحركة الوطنية الهندية. قاد مسيرات ضخمة ووقفات احتجاجية سلمية ضد الاستعمار البريطاني، مثل مسيرة الملح في عام 1930، التي كانت رمزا للمقاومة السلمية والتفاني في سبيل الاستقلال.
وهي تظاهرة احتجاجية من أجل الحق في إنتاج الملح المستقل عن الحكومة البريطانية، وقد أثارت تلك التظاهرة الوعي الدولي حول قضية الاستعمار البريطاني وساهمت في دعم حركة الاستقلال الهندي، كما اعتقل غاندي عدة مرات بسبب أنشطته، وكان يستخدم الإضراب عن الطعام كوسيلة للتظاهر ضد الظلم. في النهاية اكتسب تأييدًا واسعًا لقضيته وأصبح رمزًا للنضال الهندي من أجل الاستقلال.
غاندي والقضايا الاجتماعية
بالإضافة إلى النضال من أجل الاستقلال، كان لغاندي دور فعّال في مكافحة الظلم الاجتماعي والتمييز الطبقي في الهند. فقد ناضل بشدة ضد التفرقة الطبقية والعنصرية والتمييز الجنسي. كان أحد أكبر الداعين لإلغاء نظام الطبقات الهندوسية “الكاست” وحماية حقوق المرأة وتمكينها.
تبني الأهيمسا والفلسفة الروحية والأخلاقية
الأهيمسا مفهوم هندي قديم ينتشر بشكل أساسي في الفلسفات والأديان مثل الهندوسية واليانية والبوذية. الأهيمسا تعني “عدم العنف” أو “عدم إلحاق الضرر” بكائنات الحياة الأخرى. يشمل هذا المفهوم العيش بطريقة تحترم وتكن حبًا لجميع الكائنات الحية والعمل على عدم إلحاق الضرر بهم يعتبر الأهيمسا أحد المفاهيم الأساسية في العديد من الممارسات الروحية والأخلاقية.
وقد كان غاندي رائدًا في استخدام الأهيمسا كوسيلة للمقاومة السلمية ضد الاستعمار البريطاني في الهند. حيث كان يرى أنّ العنف لا يمكن أن يؤدي إلى حلول دائمة وأن السلام يمكن تحقيقه فقط من خلال التفاوض والتفاهم المتبادل. كما كان يركز على الانضباط الذاتي والتحكم في الرغبات من أجل تحقيق التناغم الداخلي والتقدم الروحي، وقد نجحت تكتيكاته تلك في تحقيق تقدم ملموس على طريق الاستقلال.
وتجربته هذه دفعته للنضال من أجل حقوق المواطنين الهنود المقيمين في جنوب إفريقيا. ومن خلال هذا النضال، طور غاندي مفهوم “ساتيا جراها” أو “التمسك بالحقيقة”، وهو نوع من المقاومة السلمية الذي يعتمد على الأهيمسا وإرادة الشعوب للمطالبة بحقوقهم، وإضافة لذلك كان غاندي يؤمن بالقيادة الأخلاقية والعيش بمبادئ مثل الصدق والتعايش السلمي، وتأثر العديد من القادة الحقوقيين مثل مارت لوثر كينغ جونيور ونيلسون مانديلا بفلسفته.
استمر نضال غاندي حتى 15 أغسطس 1947، حيث استعادت الهند استقلالها عن الاستعمار البريطاني وتم تقسيم البلاد إلى الهند وباكستان. رغم هذا النجاح السياسي، كانت الهند تشهد توترات دينية وطائفية حادة بين المسلمين والهندوس. وقد بذل غاندي جهودًا حثيثة لتهدئة العنف وتعزيز الوحدة بين الأديان والثقافات المختلفة.
اغتياله
في 30 يناير 1948 كان اغتيال غاندي على يد ناتورام غودسه، وهو متطرف هندوسي ليرحل تاركا وراءه إرثًا لا يُنسى من النضال السلمي والعمل من أجل العدالة الاجتماعية والتحول الروحي، ولم يكن تأثير هذا الإرث مقتصرا على الهند فحسب، بل تعدى ذلك ليصبح إلهامًا للعديد من الحركات الوطنية والاجتماعية حول العالم. حيث نهل مناضلون كثر مثل مارتن لوثر كينغ جونيور ونيلسون مانديلا من فلسفته السلمية وطبقوها في حركاتهم الخاصة من أجل المساواة والعدالة.
كيف تأثرت العلاقات بين غاندي والمجتمع الإفريقي؟
تأثرت علاقات غاندي مع المجتمع الإفريقي بشكل كبير بسبب تجربته في جنوب إفريقيا والتصريحات والمواقف التي اتخذها في ذلك الوقت. في أثناء إقامته في جنوب إفريقيا، كان غاندي يركز بشكل أساسي على حقوق الهنود وكان يسعى لتحسين وضعهم القانوني والاجتماعي، ومع ذلك لم يكن قد قام بتبني موقف شامل للدفاع عن حقوق جميع الأفارقة والمهاجرين الآخرين في جنوب إفريقيا، هذا جعل بعض الأفارقة يشعرون بأن غاندي لم يكن مهتمًا بمصالحهم.
بالإضافة إلى ذلك، استندت بعض النظريات العنصرية التي أعرب عنها غاندي في رسائله وتصريحاته إلى توترات بينه وبين المجتمع الإفريقي. على الرغم من أن بعض هذه التصريحات قد تم إلغاؤها أو إعادة تقديرها بمرور الوقت، فإنها لا تزال تُعتبر جزءًا من تاريخ غاندي وتأثيره على العلاقات بين المجتمعات المختلفة.
في الوقت الحاضر، يكون النقاش حول العلاقة بين غاندي والمجتمع الإفريقي معقدًا ومتعدد الجوانب. فيعترف البعض بتطور غاندي وجهوده في النضال من أجل المساواة والعدالة، بينما ينتقد آخرون تصريحاته ومواقفه السابقة. لذا، يعكس تاريخ غاندي وعلاقته بالمجتمع الإفريقي تعقيدات وتناقضات الحياة البشرية والنضال من أجل العدالة والمساواة.
المهاتما غاندي: وقصة العنصرية
أثناء إقامته في جنوب إفريقيا بين عامي 1893 و1914، كان لغاندي آراء سلبية تجاه السكان الأصليين في إفريقيا، وهم السود. وصفهم بأنهم “متوحشون” و”خام” وأنهم يعيشون حياة التراخي والعري، وظل يتبنى رؤية بيروقراطية للأجناس، حيث كان يعتبر الهنود والبيض أفضل من السود.
في عام 1904، كتب غاندي في مجلة “الهنود البارزون” (The Indian Opinion)، وصفًا للأفارقة السود قال فيه: “السود بربريون لا يعرفون الحضارة الحقيقية، ويجب علينا أن نعاملهم بشكل مشروط.” وفي عام 1905، كتب غاندي في نفس المجلة: “السود الجدد يعيشون حياة التراخي والعري.”
كما أن هناك مصادر أخرى تشير إلى تصريحاته العنصرية، مثل الرسائل التي كتبها إلى رئيس الوزراء البريطاني في جنوب إفريقيا والتي تضمنت عبارات عنصرية تجاه الأفارقة. يُعتقد أن هذه الآراء كانت متأثرة بالتصنيف العنصري الذي كان سائدًا في العالم الغربي خلال تلك الفترة، وفي هذا الصدد يشير بعض المحللين لفكر غاندي إلى أنه كانت له آراء عنصرية خلال فترة إقامته في جنوب إفريقيا. ويعتبرون أن تصريحاته كانت مهينة للسود ويرى بعضهم أنه لم يتأقلم مع آرائه حتى في وقت لاحق من حياته. ومن تلك المآخذ التي يرونها:
- التمييز بين الهنود والأفارقة: قدم غاندي عدة مرات مطالبات لتحسين أوضاع الهنود في جنوب إفريقيا دون أن يشمل الأفارقة. يعتبر البعض أن غاندي كان يسعى للحصول على حقوق متساوية للهنود مع البيض بدلاً من المساواة لجميع الأجناس والأعراق.
- تفضيل الطبقات العليا: يُشاع أن غاندي كان يفضل الهنود من الطبقات العليا، وكانت له انحيازات طبقية. وقد يعتبر هذا جزءًا من المشكلة العنصرية التي تورط بها غاندي، حيث يمكن أن تعدّ تلك الانحيازيات متصلة بالنظام الطبقي الهندي الذي يميز بين الناس بناءً على خلفياتهم العنصرية والطبقية.
ومثل هذه المآخذ أدت إلى ردود فعل متأخرة مضادة لغاندي، ولكن في الوقت الذي كان يعيش فيه في جنوب إفريقيا ويكتب تلك التصريحات، لم يكن هناك الكثير من ردود الفعل العلنية على تصريحاته العنصرية، وربما أحد الأسباب المحتملة لهذا هي أن المجتمع الذي كان يعيش فيه كان يتميز بالتمييز العنصري الشديد والأفكار الاستعمارية.
لذا قد لا يكون تعليق غاندي قد اعتبر غير عادي أو ملفت للانتباه في هذا السياق، ولكن على مر السنين ومع نمو شهرة غاندي وأهميته كزعيم لحركة استقلال الهند، بدأ النقاد في إعادة النظر في تصريحاته وسجله في إفريقيا. تم تسليط الضوء على جوانبه المشكلة وكيف تطورت آراؤه وتصرفاته على مر الزمن.
وفي العقود الأخيرة، كانت هناك ردود فعل من العلماء والنقاد الذين يتناقشون حول الجوانب العنصرية من تاريخ غاندي. يتناول بعضهم هذه المسائل في كتبهم ومقالاتهم ويناقشون التأثير الذي كانت له تلك التصريحات على إرث غاندي وهذا النقاش مستمر حتى يومنا هذا، ويعكس الحاجة إلى فهم تاريخه بشكل أكثر عمقاً.
ومن المهم الإشارة إلى أن تاريخ غاندي وآراؤه يجب أن يُنظر إليهما في سياقهما التاريخي ويُقدر تطورهما على مر الزمن على الرغم من المزاعم العنصرية المذكورة، يعتبر غاندي شخصية معقدة ومتعددة الجوانب، ولا يمكن حصر تاريخه وإرثه في بعض التصريحات والأفعال السلبية.
كما أن هناك من يشير إلى أن غاندي قد غير آراءه وتصرفاته بمرور الوقت، وبعد عودته إلى الهند، أصبح أكثر شمولية وتفانيًا في النضال من أجل حقوق المدنية والاجتماعية لجميع الأعراق والطبقات قام بتأسيس أشرم “سابارماتي”، حيث أنشأ مجتمعًا يعيش فيه الناس من مختلف الطوائف والثقافات بسلام.
وتبنى مبادئ المساواة والأهيمسا (غير العنف) وفيما بعد، اعتذر عن تصريحاته العنصرية وعمل على تعزيز التسامح والاحترام المتبادل بين الأجناس والثقافات، وللوصول إلى معلومات حول اعتذار غاندي يمكن الرجوع إلى المراجع المثبتة في نهاية هذا البحث. وإن كان من الصعب العثور على اعتذار محدد وواضح من غاندي بشأن تصريحاته العنصرية، ولكن استعراض حياته وتطور آرائه يوفر فهمًا أفضل للتغيير الذي حدث في مواقفه وأفكاره.
وفي النهاية، لا يمكن إنكار أن المهاتما غاندي كان له تأثير كبير على العالم وقضايا الحرية والمساواة وكانت له مدرسته الخاصة في ذلك وعلى الرغم من أنه قد ارتكب أخطاء وتبنى آراء عنصرية في بعض الأحيان، فإن تطوره وتأثيره الإيجابي يمثلان جزءًا مهمًا من تاريخه وإرثه.
كما يمكن القول إن مهاتما غاندي قد عانى من تناقضات داخلية خلال نضاله من أجل الحرية والعدالة. بينما كان يكافح من أجل الاستقلال الهندي والمساواة بين الطبقات والأعراق، ولعلّ تجربته في جنوب إفريقيا والتمييز العنصري الذي واجهه هناك قد أثر على أفكاره وتصرفاته في البداية. ومع ذلك، ثم تطورت آراؤه بمرور الوقت، مع بقاء التزامه بمبادئ اللاعنف والمساواة حتى آخر يوم من حياته.
إقرا المزيد:
- حوار ملهم مع الروائية ليلى سليماني
- حوار مع الشاعرة والروائية فيرونيك تادجو من ساحل العاج
- حوار مع الروائية الزمبابوية إيفون فيرا