سينما السودان ومتصوفيه وساسته
أدى قرار عمر البشير باغلاق دور السينما في عام 1989 واغلاق المؤسسة العامة للسينما السودانية في عام 1994 إلى ارتياح شديد في بلد تتمتع بالرقابة الشديدة. بالرغم من ذلك، فإن الإبداع السينمائي في السودان كان مدهشا للغاية، وتأليف السيناريو جريء في بلد تخضع للقيود والمحرمات. تكمن المشكلة في ضعف مدارس التمثيل في السودان، ومع ذلك كان فيلم Post Ban مصدر إلهام للكثيرين، إذا لم يغلق البشير دور السينما لربما لم يتم تقديم هذا المشهد الجمالي الحر في السودان. للأسف لم يحصل هذا الفيلم على الحرية في السودان بعد الآن.
في السودان من المتوقع أن تنتظر فترة من الوقت للحصول على الموافقة على مثل هذه الإبداعات الجريئة، وتعمل السينما على تمييز الكلمات القمعية والمعايير والحركية، وهي مُهداة لثورة السودان وشهدائها الذين يغتالون بشكل مستمر، تعتبر هذه الإنجازات السينمائية خطوة إضافية في إظهار الجمال المخفي في الناس”سيموت في العشرين” هو عنوان فيلم يحمل عنواناً كثيفًا للموت والحزن الذي يرافق الموت، ولكن الفيلم يتحدث عن الجمال الذي يكمن وراء النقاب.
فيلم ستموت في العشرين
تتمحور أحداث الفيلم في قرية سودانية منعزلة تمتلك العديد من القباب الصوفية والمقامات والأشخاص ذوي الكرامات، فيما تتفشى فيها الفقر والخرافة وبقايا الحيوانات، وتغيب الدولة عنها، على الرغم من أن انعدام الدولة لا يلغي وجودها تحتها، يتواطؤ أصحاب الكرامات مع الدولة لقهر الفقراء وإيصالهم للانضواء المرغوب به، ويؤدي هذا الانضواء إلى زوال الوعي لديهم إن الحجب القسري للوعي يشعرهم بالعالم الخفي ويمنعهم من مساءلة الساسة ومحاسبتهم، لذلك تأمن لهم البقاء في السلطة.
بالحقيقة لا تكون الدولة غائبة، بل هي حاضرة ليس لرعاية الناس ولكن لرعاية هذه المقامات التي تدعم النظام الحالي، ويصور الفيلم ليس بشكل مباشر النشاط السياسي في هذا المكان الذي يهيمن عليه الخرافة، ومع ذلك فإن الهيمنة تعكس دور الدولة في ذلك المكان، وربما كانت هذه هي المشكلة الرئيسية في الفيلم أو على الأقل مشكلة حياة وموت، والشيء الوحيد الثابت هو تحالف سلطة الحاكم مع سلطة الخرافة ضد السودانيين والتغير هو الصورة التي تتخذها الخرافة.
يبدأ الفيلم بنبوءة من شيخ صوفي للبطل الشاب مزمل النور بأنه سوف يموت في عيد ميلاده العشرين، وذلك بعد وفاة أحد الدرويش أثناء التسبيحة العشرين، وبعد ذلك تحول مزميل إلى ابن الموت، وأخذت سكينة والدته لعناية الشيخ الصوفي، ثم توفى مزميل وهو على قيد الحياة.
قررت سكينة أن تذهب إلى الشيخ لكي تتلقى البركة والخير، وذلك لأنها ليست واثقة من حاضرها ومستقبلها، فقد أرادت الشعور بالأمان الروحي الذي تتصور أن صاحب العزم الإلهي قادر على توفيره لها، ولو كانت سكينة آمنة بواقعها لما كانت بحاجة للبحث عن الطمأنينة الروحية، ولما كانت تتلمس لابنها البالغ من العمر العشرين عامًا، والذي لم يظهر في الفيلم بشكل واضح هو دور النظام الحاكم في إثارة قلق الإنسان منسي، الذي يمكن أن يتعرض لضغوط مزدوجة من الحاكم وأولياء الله، مما يزيد قلقه بشأن وجوده الذي قد يهدد بالنسبة للموت.
قدّمت الممثلة إسلام مبارك شخصية سكينة ببراعة، وهي امرأة لا تمتلك الكثير من الذكاء وتشعر باستحالة تحقيق أي شيء، حتى تفقد العقل أمام قداسة النبوءة ولا تبقى إلا خرافة، وقد توفت هي وابنها البالغ من العمر عشرين عامًا، ومع ذلك، فكرت سكينة في الأشخاص الذين أرادوا قتل ابنها، وأرادت إيجاد الخلاص من خلال خرافة أخرى، لقد تحولت سكينة إلى امرأة محبطة حتى توجهت إلى الشيوخ لجلب الخير ودفع البلاء، لأنها لم تكن قادرة على تحديد مصيرها بنفسها.
دور رواية النوم عند قدمي الجبل في الفيلم
على الرغم من الضعف الذي تعاني منه، إلا أنها أظهرت قوتها في شخصية الكندانة السودانية وتحديها للظروف الصعبة وأشد من ذلك، الموت الذي يواجهها بمفردها، حيث تركها زوجها وانتابته الخوف منه، ولمدة عشرين عامًا غاب الضوء، إلا أنه عاد مع اقتراب موعد الموت واختارت ان تدفن ابنها في مكان يرده الذكرى إليه، وعلى الرغم من غياب الزوج في الفيلم، فقد بناه المخرج الفيلم على قصة النوم عند قدم الجبل للروائي السوداني حمور زيادة، ومن هنا قرر المخرج منح المرأة مساحة مهمة في الفيلم، وهذه المساحة تعكس الواقع السوداني الثقيل والحمل الذي يحمله في طياته.
حضرت كندانة الثورة السودانية، تم تجسيدها بواسطة الممثلة بنّة خالد، وقدمت نعيمة الحبوبة بشكل جذاب ومميز نعيمة هي حبيبة مزمّل وشخصية تمثل الفخر والثورة بفرحها وكبريائها وشعرها الحر، وإنها شخصية تنظر إلى الموت دون خوف وتحثّ مزمّل على الحب والحياة، كما قامت بسرقة قُبلة من خد ميت. تؤمن بصحة النبوءة، ولكنها تؤمن بالحياة أكثر رغم أن نعيمة لم تكن موجودة في قصة حمور زيادة، لكنها حظيت بحضور جميل ومتوازن في الفيلم.
مضمون “ستموت في العشرين”
يتحدث النص عن مزمل الذي يموت في العشرينات من عمره، وهو يرمز إلى الموت والتلاشي. يجسد جسده وكفنه رموز الموت والعدم، والأطفال في القرية يدهنون جسده بالرماد، محاولين استباق مصيره ويفتقد مزمل إرادة الحياة والقتال، فقد انتهى مصيره لصالح النّبوءة، الأمر الذي يعبر عن الاعتقادات والخرافات التي تطغى على جيلان من الناس.
يعرف في هذا النص استمرارية الجهل وارثها في المجتمعات التي لا تتقدم، وتستمر في إنتاج التخلف في حين يستنزف الإنسان نفسه، يعيش الوضع الذي يذكرنا بزمن الاحتلال الاستعماري الإنجليزي والاغتراب الشديد للشخص عن بلده وقريته التي لا تزال تعيش في ما قبل الآلة، وتلاقي الشخصيتين سليمان ومزمّل معاً بطريقة مشوّقة للكاتب المسرحي محمود ميسرة السرّاج.
هو اجتماع بين الموت والحياة حيث يمثل الموت بوفاة الأشخاص وجنائزهم وروائحهم الكريهة وسكونهم، ويمثل الحياة بجمالها وحيويتها وطرافتها كما يجمع هذا الاجتماع بين القوى السلبية والإيجابية للإنسان، حيث يستمتع الناس بالحياة ويميلون إلى الخطأ والشهوات، في حين يحاول البعض التحلي بالطهر والنقاء، ويصور سليمان الخطيئة على أنها طبيعية للإنسان ويشجع على القيام بها، ولكن تبقى الطهرانية المنقية غير ملوثة بالخطأ والآثام وهذا يذكرنا بأننا لا نستطيع التعرف على شيء ما حتى نشاهد نقيضه.
لن يكون مزمّل مستوفيًا للفضيلة إلا إذا فهم الرذيلة، ومشهد جميل صوّره المخرج في الجامع حيث يقمّ بالطّهارة، وجمال الخطيئة جذب حتى مزمّل الذي يعاني من الموت قبل الرحيل، يريد اللّقاء بربّه ويأمل في حسابه بشكل صحيح، واللّقاء بسليمان يمثل اللّقاء بين اليقين والشكّ يريد مزمّل تعلّم الحساب ليفهم عقله الذي أفسدته الخرافة، وسليمان أنعش حياته وأثار التفكير فيه.
بينما لم تنجح صديقته نعيمة في ذلك، فإن هذا الانعدام المرعب للعقل يمكن فقط استحضاره بواسطة العقل، وهذا ما يفرق بين سليمان ونعيمة في حرصهما على مزمّل والعيش، لكن الموت يجسد الحياة لكليهما في هذا المكان المكتظ بالموت نعيمة هي الحياة الشابة، وسليمان هو الحياة التي شاخت وتنتظر الموت الطبيعي وليس الخيالي المفتعل.
في الفيلم كان الموت ثقيلًا في القصة، ولكن عندما حدث في الواقع، كان خفيفًا توفي سليمان واحتل مكان مزمل في المقبرة، وتوفيت الخالة التي تركت الحصان وحيدًا، وكانت وفاتهما خفيفة، تدل خفّة الموت هذه على أن المشكلة الأساسية في الفيلم لم تكن الموت، بل كانت تحالف القوة الحاكمة مع القوة الدينية التي ترتدي الثياب الدينية بالنسبة للسودانيين، والتآكل اليومي الذي ينتج عن هذا التحالف، وعلى الرغم من وجود الموت في الفيلم، فإنه كان مصحوبًا ببعض الفرح، إذ اخترق صرخة الحنين الصامتة لسكينة، التي كانت ترتدي ثياب الحداد الأسود لمدة عشرين عامًا، غناء ورقص نساء القرية بالتوب السوداني الكثيف بالألوان، والأسود في مواجهة الألوان والحزن في مواجهة الفرح.
جاء كل هذا السعادة في صراع مع الحزن السوداني المعروف، وربما هو الحزن الأصلي الذي غنّى عنه محمد وردي، وكأن الحزن هو حرفٌ واحدٌ من الهوية السودانية لا يمكن تجاهله، يبدو أن الحديث عن الاحتفاء بالحزن السوداني يقوم على تطبيع الأمر مع الواقع القاسي المحتمل على السودانيين. عرض الفيلم الجانب الجميل بمفرطٍ عن الحزن وفي ذات الوقت عرض الجسم كراقص مملوكٍ لشهوات الرجال، وكانت الشخصية المستثيرة “ست النسا” أيضًا.
لقد قدّمت بصدق قصة المرأة التي تعاني من الاستغلال المتكرر، والعبء الذي لا يتوقف، وهذه الشخصية ليست سوى امتداد لحياة المومسات التي يتعرضن للإذلال والإهانة، والمخرج ذهب إلى أبعد من ذلك وعرض النساء كما لو كانوا لا يرتدون الجلباب والحجاب، وقامت الممثلة آمال مصطفى بأداء دور شخصية ست النساء في فيلم “ست الهامش”، التي تمثل الطبقة الأكثر إهمالًا بين الفئات الضائعة، حيث تشكل الطبقة النسائية الأكثر تهميشًا في هذا المجتمع القروي المهمش من قبل دولته.
وتعتبر هذه الفئة من المجتمع المنبوذة التي تجذب بقوة نحو الهاوية ولا تستطيع الصمود، وكما أن المخرج لم يغفل عن نقطة الجسد الذي يسعى الشيوخ إلى الإستيلاء عليه من خلال الولاة، مقابل توفير الخلاص الروحاني المزعوم، وفالأشخاص الذين يسيطرون على عقول الآخرين يتجرأون على أجسادهم، وتُعَدّ اعتداءات الشيخ على جسد شخصية “مزمل” شكلًا من أشكال استغلال السحرة لشخص بائس يبحث عن الخلاص، وهو شيء يحدث كثيرًا في ظلام غرف الشعوذة.
يتناول الفيلم بشكل صريح وقاطع حضور السلطة الدينية الصوفية الكبير، التي تسيطر على حياة الناس وتغمرهم بالغموض، وهذا الحضور ليس قريبا فقط لقرية صغيرة في السودان، بل ينتشر للكثير من الأماكن، ويمتد لأزمان سابقة أيضًا وعلى الرغم من ذلك، لم تمنع هذه الإدانة الحادة المخرج من استعراض جمالية الصوفية من حيث الألوان والموسيقى، كما تم رصد مجموعة من الدراويش الحمر عبر قواربهم المميزة في مشهد رائع، والذي يشير بدوره إلى قرب حلول الموت.
ظهر نهر النيل في الفيلم كما ظهر في حياة السودانيين، ولكن الصورة التي رسمت للنيل كانت مختلفة عن الصورة التي عرّفتها لنا مصر، فقد تم تصوير النيل على أنه شيء خطير وغير مألوف، يمثل الموت، حيث ترتبط الوفاة ونهر النيل معًا ومن هذا الناحية، فمزمل كان خائفًا عند مقابلته لأول مرة لماء النيل، وعاتبه وضربه في مقابلته الثانية وعانى بسببه، وكانت النهاية المأساوية لأولاد القرية في النهر، كان النيل أيضًا يمثل الخلاص عندما قال سليمان لمزمل: “لو كنت بمكانك ، لتبعت النيل من هنا إلى مصر البحر المتوسط أوروبا”.
صوَّر الفيلم النيل كنهر العبور إلى الحياة، بعدما كان مصدر الموت والفناء، والحضور الفريد والبهيج في فيلم أمجد أبو العلا هو حضور السينما كنافذة ينظر الإنسان من خلالها على عالم خارج قريته المعزولة، وكأنّ المُخرج يقول: “أنا هنا لأحضر لكم قصصًا سودانية جديدة”، وقد كان الفيلم فرصة ليشارك الكاتب وصانعي الفيلم تجربتهم مع الشعب السودانيِ وتاريخه وثقافته، وأرادوا به ذلك إطلاق السينما السودانية الجديدة، فقد جعلوا من السودان أرضا خصبة للخيال والإبداع، وكذلك أرضا تستحقُ الجهد والعمل المثابر عليه. فأنتم بانتظارنا!
إقرا المزيد: