سافانا الثقافي – كنتُ منغمسا في القراءة في وسط غرفة مطلة على أطلال الكاتدرائية الكاثوليكية القديمة في حيّ حمرويني في مقديشو عندما اتصل عليّ المبعوث الرئاسي الخاص للشؤن الإنسانية والجفاف عبد الرحمن عبد الشكور يخبرني بأننا سنسافر إلى جمهورية مصر العربية لمشاركة “مؤتمر جامعة الدول العربية والأمم المتحدة حول الجفاف والأمن الغذائي في الصومال”.
على جناح السرعة جهزت نفسي للسفر ورافقت المبعوث الذي منذ أن تولى مهمّة لفت انتباه المجتمع الدولي للجفاف الحاد اختارني ضمن فريق عمله إلى القاهرة، وجوهرة الشرق وقبلة المفكرين والأدباء، وفي مكتب المبعوث الذي كان يعج بالحركة والعمل الجاد، كنتُ مسؤولا عن الملف العربي الذي كانت الحكومة الصومالية تعوّل عليه بعد انشغال الجهات الغربية المانحة بالأزمة الأوكرانية وتراجع أداء اقتصاداتهم.
من مقديشو إلى القاهرة وإن طال السفر
كغيري من الصوماليين كنت أبحث عن مهرب من حياة محاطة بالخوف، ومدينة تفتقر إلى كيمياء الحياة السعيدة، وتتسابق فيها البنايات الشاهقة وركام الحرب والعشوائيات مما جعلها غير متناسقة، وفوق هذا كله سأبتعد ولو مؤقتاً عن المتاريس والطرق المغلقة على الدوام والرعب الناجم عن إطلاق الرصاص العشوائي يوميا في مدخل مقر محافظة بنادر الذي لا يبعد عن شقتي سوى أمتار قليلة.
وبعد كل إطلاق مكثف للنار كان الألم يجت
اح أضلعي فأطلّ بعنقي بطريقة اللاإرادية من النافذة لأقيّم الوضع بعينين حزينتين وقلب يخفق بشدّة، وأجول ببصري حول طريق غارق بمليشيات معفرة بالبؤس وتوك توك (Auto rickshaw) تنتظر الركاب، وملامح لا تبالي ولا تكسوها الخوف. الحياة تسير بوتيرتها الاعتيادية، والمارّة تضحك ولا تهتم بهدير البنادق وكأنها تتلذذ بموسيقى البيكا، وأنغام الدوشكا، وألحان آي كي 47، والعزف على وتر المسدسات.
“لا شيء يدعو إلى القلق يا حسن.. مجرّد حراسة أمنية تطلق الرصاص على الهواء لكي تفسح الطريق أمام سيّارة مسؤول عالقة في الزحمة” يقول صاحب الشقة، وهو يتابع التفاهات السياسية، ويتصفح غثاء المواقع الإلكترونية الصومالية بنهم ستيني عاد لتوّه من الغربة ويمني النفس بحياة مستقرّة في خريف العمر.
في زيارتي الأولى لمصر عام 2017م كنتُ هاربا من العزلة الثقافية، وسائحا يحدوه الشوق إلى زيارة معالم القاهرة وآثارها الفرعونية ولمساتها الرومانية ومعمارها الإسلامي، وبعد 5 سنوات ها أنا أسافر إليها من جديد ولكن بمهمة رسمية وآمال عريضة، لفت أنظار أشقائنا العرب إلى الصومال التي إلى جانب الحرب الأهلية وتزخر بالثروات الطبيعية، وإمكانات استثمارية هائلة.
ورغم أن العرب لم تغب يوما عن الصومال إلا أننا كنّا نحمل تصوراً جديدا لحل الأزمة الإنسانية المتكرر في بلادنا: “الإغاثة والمساعدات الإنسانية بعد كل موجة جفاف -رغم أهميتها- لا تعزز قدرة الشعب على الصمود أمام الكوارث الطبيعية، بل ستساهم في تعزيز الكسل والاتكالية.
والشعب الصومالي في أمسّ الحاجة لمشاريع انمائية واستثمار عربي على القطاعات الاقتصادية الواعدة والخالية من التنافس، والاستثمار العربي للصومال ليس حلاً جذريا لها فحسب، بل سيكون حلاً للوطن العربي برمته الذي يواجه تحديات مستقبلية لعل أبرزها «انعدام الأمن الغذائي.
مستسلما لأفكاري ومتاهة الليل وصلت إلى المطار، كان مزاجي مكتئبا وأنا أضع رجلي على سلّم الطائرة بسبب تداعى ذكريات الطائرة المصرية التي تحطمت فوق البحر الأبيض المتوسط عام 2016م، أقلعت طائرة بوينج 737-800التابعة لــ «مصر للطيران» ولساني يلهج بــــ {يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف} وحلّقت فوق «مدينة يجد فيها المرء أحلامه» بعتبير كارين بلكسين. في المقاعد الأمامية جاورت مع ممثل مصري صوّر مشاهدا من مسلسله القادم في المحافظة الساحلية الكينية.
كان سعيداً بدوره كضابط شرطة يتحاشاه الجميع، ويعاني من رهاب الطائرة، وطيلة الساعات الأولى من الرحلة كنت أبدد مخاوفه بالحديث عن الأحداث العالمية، وعن كرّة القدم ومحمد صلاح، وعن الأفلام والكتب، ومفكرين مصريين صنعوا المجد الثقافي لبلده، ورغم أنه لم يكن متضلعا في الشأن الثقافي إلا أنه استأنس بالحديث معي، وحدثني بدوره عن الاعتبار الذي وجده في الفن ولم يجده في الحياة الحقيقية.
في وسط أجانب يتهامسون ومصريين يبدو على ملامحهم سعادة العودة إلى وطنهم كان صومالي في ميعة الصبا ويتحدث الإنجليزية مثل ريموند ردينغتون (جيمس سبيدر) في مسلسل «القائمة السوداء»، محاطاً بفتيات شقراوات يغنين ويضحكن باستمرار، بينما كنت وحيداً في ركن قصيّ من الطائرة أقرأ الثورة الساندينية ومذكرات الشاعرة النيكاراغوية جيوكوندا بيلي «بلدي تحت جلدي».
ورغم الدور البطولي الذي كان يمثله (في نظره) إلا أنني شعرت بالشفقة تجاهه، وكان ضحية من ضحايا الحرب الذي دمّر صومالية الصومالي، وشوه شخصيته واغتال قيمه وبنيته الاجتماعية، وهذا ما يريده الغرب الذي فتح أبوابه للصوماليين الهاربين من جحيم الصراعات العبثية، صناعة صومالي يتقن نحت أفكار الغرب، ولا يعرف من الإسلام إلا الشعارات، وهنا لا ألوم الشعب الذي عاش وما زال يمارس حياة لا جودة لها بين مطرقة زعماء الحرب وسندان التطرف الذين لم يتركوا لهم أي خيار آخر.
وفي الغرب ليس هذا الشاب الذي يرتدي ويتزين بأقراط الأذن مجرد مهاجر يعاني من أزمة الهوية وعدم قبول المجتمع فحسب، بل هو أسود مسلم وصومالي أيضاً، ومن الممكن أن الهزيمة النفسية ورحلة البحث عن الذات أبعدته عن تقاليده ولم تشفع له أمام أصحاب «تفوق العرق الأبيض»، ولولا المرأة الصومالية المسنّة والمحجبة، والملامح التي لا تختفي لما عرفت بسبب مظهره وجسمه المغطى بالوشوم والرسوم والبعيد عن الذائقة الصومالية.
وصلت إلى قاهرة المعز
بعد رحلة استمرّت 5 ساعات إلا قليلاً حلّقت الطائرة فوق النّيل المهيب الذي شكّل هوية مصر ونهضتها عبر التاريخ، وأفردت جناحيها فوق مدينة متوهجة على كتف «النهر الخالد» وأفكاري تتحدث إليّ، وهل كلمتنا ستعكس على حدّة الجفاف الذي تركناه وراءنا، وهل مخرجات المؤتمر سيساهم في إنقاذ شعبي من الانزلاق نحو المجاعة، وكان رأسي ملئ بالاجتماعات المرتقبة والمآلات الممكنة عندما لامست عجلة الطائرة على مطار القاهرة الدولي.
واستقبلتني صالة الوصول بآية من الذكر الحكيم: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقابلتها بذراعي مفردة على اتساعهما، ومزهواً بسلامة الوصول ومستغربا بشحوب المطار مقارنة بأقرانه من الدول العربية وحتى الأفريقية وقفت أمام شرطي الجوازات الذي الصق جوازي بشاشته الآلية، وبعد إمعان وقراءة متأنية للاسم والتعمق في تفاصيل الوجه طلب مني أن أنتظر وراء الحاجز الزجاجي ريثما يعود لأن اسمي مدرج على القائمة الحمراء، سألت باستغراب: “لماذا اسمي مدرج في القائمة الحمراء ولم أقترف جرما؟” فردّ عليّ: “مهلاً يا حسن.
أما تعرف أن نصف المصريين يحملون اسم حسن، والسلطات القضائية تلاحق الكثير منهم، إضافة إلى أن بلدك يعاني من سطوة التطرف؟” وقفت في ركن قصي من المبنى أنتظر قرار الشرطي الذي لم يعاملني كإرهابي محتمل، بل كبريء حتى تثبت إدانتي، وهذا لو تعلمون عظيم في مثل هذه المواقف، وأمرني شرطي آخر بأن أتبع صديقه الذي يحمل على يده اليمنى جوازي واليسرى جهاز اللاسلكي، فذهبت أقتفي أثره حتى وصلنا إلى كابينة فيها ضابط رفيع المستوى.
وفي منتصف العقد الخامس من عمره تقريبا قابلني بوجه سعيد وابتسامة تعكس طيبته، قلّب الضابط صفحات الجواز وسأل صديقه دون أن ينظر إلى ملامحي: “هل هو صومالي؟” فأجاب بنعم فقال له: “أعط جوازه.. مجرّد تشابه في الأسماء ليس إلّا.. أهلا بك يا حسن.. نوّرت مصر”، غادرتُ المبنى ولساني يردد: نوّر الله قلبك بالإيمان يا رئيس.
خرجت من المطار مثقلا بالبحث عن إجابة مقنعة للتوقيف المتكرر، وفي باحة المطار وفي وسط شتاء أرخي بظلاله على الشارع لمحت صديقي عبد الفتاح طاهر عِلمي يلوح بيديه من بعيد، ذهبتُ مع عبد الفتاح الذي شاركت في حفل زفافه في الأسبوع الأخير من شهر يناير 2023م إلى فندق انتركونتيننتال سميراميس ونحن نتحدث عن أشياء كثيرة، وعن الكتابة والمنافي التي تهدّ نضارة الجسد، وعن تفاهة مواقع التواصل الاجتماعي والوعي الزائف.
ولم ننس عن حثالة متطرفة تسيطر على مفاصل الوطن، وشعب يتشبث على الحياة ويبحث عن معناها، وفي خضمّ حديثنا أشدنا بالحملة العسكرية ضد حركة الشباب واتفقنا على أن وحشيتها ورفضها لكافة الحلول أعطى الشعب حافزاً للمقاومة وزرع في نفسه روح التحدّي والتمرد، وأنها (إي الحركة) فقدت جزءا كبيرا من هيبتها وقوتها، ليست لأنها انهارت عسكريا أو أفلست اقتصاديا، بل لأن الشعب تحرر من الكبت، ولم يعد يخاف من بطش حركة تجيد ثقافة الخوف، ونهب الأراضي وفرض الاتاوات. لقد بدأت حناجر لا تصمت تهتف ضد التوحش، وتدعوا إلى الحرية والسلام.
إقرا المزيد: