سافانا الأدب والفنسافانا مختارات

“السينما الإفريقية السوداء: من الاستعمار إلى استعادة الهوية”

سافانا الثقافي:“السينما الإفريقية السوداء: من الاستعمار إلى استعادة الهوية” على مرّ التاريخ، كانت السينما أكثر من مجرد وسيلة للترفيه أو سرد القصص؛ إنها نافذة تطل على روح الشعوب، تنقل آمالهم وآلامهم، وتتيح لهم الفرصة للتعبير عن هويتهم والتحديات التي يواجهونها. ولعل هذا الوصف ينطبق بشكل خاص على السينما الإفريقية السوداء، تلك التي ولدت من رحم المعاناة، من غياهب الاستعمار، وارتقت لتصبح صوتاً يصدح بالحرية والثورة الثقافية.

في القارة الإفريقية، حيث العراقة تتشابك مع الحداثة، وحيث الماضي الاستعماري يقف حاجزاً أمام تحقيق الذات، جاءت السينما لتصبح ساحةً تعبيرية فريدة. ولأنها ولدت في حقبة ما بعد الاستعمار، كانت السينما الإفريقية السوداء بمثابة مرآة تعكس عملية التجديد الثقافي وإعادة اكتشاف الذات الوطنية. فلم تكن هناك صناعة سينمائية في إفريقيا السوداء قبل الاستقلال؛ بل كانت السينما تُستخدم بشكل أساسي من قبل القوى الاستعمارية كأداة لفرض الهيمنة الثقافية والسياسية.

ومع نيل الاستقلال، ظهرت الحاجة الملحة إلى استعادة هذه الأداة الفنية المهمة وتوجيهها نحو استكشاف هوية إفريقيا الغنية والمعقدة. تلك الهوية التي طمست تحت وطأة الاستعمار، لكنها وجدت طريقها نحو الضوء عبر أفلام صناع السينما الأفارقة. هؤلاء الفنانين، برغم التحديات الجسيمة التي واجهتهم، استطاعوا عبر السينما أن ينقلوا أصوات شعوبهم للعالم، مقدمين رؤى تتجاوز السطحية الغربية في تصوير إفريقيا.

اليوم، بينما نجد أن السينما الأوروبية والأمريكية قد أصابها التشبع وبدأت في الانحدار نحو الاحتفاء بالماضي أكثر من التجديد، نجد السينما الإفريقية السوداء تواصل مسيرتها نحو الابتكار والتجدد. إنها سينما تعيش في حالة دائمة من التكوين، كما لو كانت تستكشف في كل لحظة إمكانات جديدة لالتقاط الذات والهوية الإفريقية بأشكال فنية أكثر عمقاً وإبداعاً.

 

السينما الإفريقية: بين الأخلاق والجماليات

تتسم السينما الإفريقية السوداء بعمق جمالي وأخلاقي على حد سواء. إذ لا تقتصر مهمتها على عرض حكايات المجتمع الإفريقي وتحدياته فحسب، بل إنها تنخرط في تحليل معمّق لإعادة البناء السياسي والثقافي للقارة. في حين أن العديد من الأفلام الأجنبية قد تناولت إفريقيا من منظور “الغريب”، إلا أن هذه الأفلام غالباً ما أخفقت في فهم النسيج المعقّد للثقافة الإفريقية، تاركة وراءها تصورات سطحية. الأفلام التي أنتجها الأفارقة، على النقيض من ذلك، كانت مرآة حقيقية للواقع المعاش، تتغلغل في أعماق الروح الإفريقية وتعبر عن العمليات المعقدة التي تعصف بها.

حين يلتقط الأفارقة الكاميرا، فإنهم يكتبون فصولاً جديدة في تاريخهم، يكسرون أغلال الاستعمار الفني الذي طمست هويتهم لعقود. ومن المثير للإعجاب أن فنونهم التقليدية، مثل الأقنعة والرقصات والمسرح الشعبي، قد نجت من براثن الاستعمار. ولكن السينما، بأدواتها التقنية وتركيباتها المعقدة، كانت شيئاً آخر. فقد كانت الوسيلة التي مكّنت الأفارقة أخيراً من إعادة صياغة هويتهم واستكشاف ذواتهم.

 

إفريقيا في عيون أبنائها: السينما كنافذةٍ للتعبير الذاتي

لطالما كانت السينما وسيلة استعمارية أخرى، حيث استخدمها الأوروبيون لتوثيق وتشكيل السرديات التي تعكس وجهات نظرهم الخاصة عن القارة السمراء. لم يكن هؤلاء المخرجون الأجانب قادرين على الغوص في عمق التراث الإفريقي الغني، بل قدموا إفريقيا من منظور خارجي لا يُدرك تعقيداتها ولا يتناغم مع طبيعتها المتعددة الأعراق والملامح. تلك “الرؤية الغربية” للإفريقي كانت في أغلب الأحيان مشوبة بسطحية لا تُلامس الجوهر الحقيقي للواقع الإفريقي.

غير أن السينما الإفريقية السوداء ولدت من رحم الضرورة. الأفارقة، الذين وُلدوا من رحم هذه الأرض وورثوا جيناتها الثقافية، هم الأجدر بتقديم سردياتهم. السينما بالنسبة لهم لم تكن مجرد أداة للتعبير الفني، بل سلاحًا لتحرير الهوية والثقافة من أغلال الاستعمار. ومع ذلك، فإن الاستعمار حال دون استخدام السينما كأداة للتعبير الذاتي. بقيت أشكال الفن التقليدي صامدة في وجه الاستعمار، ولكن السينما، بتعقيداتها التقنية والبنية التحتية التي تتطلبها، ظلت خارج متناول الأفارقة لوقت طويل.

في ظل الاستعمار، كانت السينما تُدار بالكامل من قبل الأوروبيين، حيث كان الأفارقة يُعهد إليهم بمهام ثانوية تقتصر على التجهيزات الفنية. لم يكن لهم دور إبداعي حقيقي. إلا أن مرحلة ما بعد الاستعمار كانت بمثابة تدشين لعصر جديد. ومع انطلاق حركة التحرر، ظهر جيل من السينمائيين الأفارقة المدججين بالعلم والشغف، الذين بدأوا في استكشاف هذه الأداة الجديدة للتعبير.

 

بولين فييرا وعثمان سمبين: رواد السينما الإفريقية

تجسد حياة بولين فييرا، الذي وُلد في عام 1925 في السنغال، الدور البارز الذي لعبه في إثراء السينما الإفريقية السوداء. تلقى فييرا تعليمه على النمط الأوروبي، وارتبطت مشكلاته بأفلامه التي عالجت قضايا المهاجرين الأفارقة في فرنسا. كانت هذه القضايا جزءاً لا يتجزأ من تجاربه الشخصية. ومن جهة أخرى، كان المخرج مصطفى ألسان من النيجر يعبر عن التقاليد الشعبية والإلهام الفلكلوري في أفلامه، بينما تحوّل عثمان سمبين، المعروف بروائيته العميقة، إلى السينما ليصنع أفلامًا أصبحت صدى للروح الإفريقية.

أفلام سمبين لم تكن مجرد سرديات بصرية، بل أدوات لتحرير الذات الإفريقية. كانت أفلامه، مثل “إكسالا” و”مولادي”، تجسيداً للتمرد على الاستعمار وتحرير الفكر الإفريقي من سطوة القوالب الغربية المشوهة. فسينما سمبين قدّمت للعالم وجهاً جديداً للقارة الإفريقية، قارة تسعى لاكتشاف نفسها وإعادة صياغة تراثها.

عثمان سمبين
عثمان سمبين

جبريل ديوب وأثره

جبريل ديوب مامبتي، المخرج السنغالي الذي مزج بين الخيال والتجديد، كان نموذجًا لمخرج تمرد على الأعراف التقليدية، مسلحاً بإرادة لا تعرف الخوف. أفلامه كانت بمثابة بوابة لعالم الحلم الإفريقي الذي يتحدث بصوت عالٍ عن طموحات الشباب وجراحهم. “توكي-بوكي”، فيلمه الشهير، جسد أزمة الحياة المبكرة والتمرد على السلطة، حيث رسم ديوب من خلاله صورة حادة للسلطة والجنون، موضحًا أن السينما الإفريقية يمكنها أن تعبر عن الواقع بطرق فريدة وغير تقليدية.

رحلة التحول السينمائي: بين النضال والإبداع

منذ بدايات السينما الإفريقية السوداء، كان المال يمثل عقبة كأداء أمام الكثير من المشاريع الإبداعية. السينمائيون الأفارقة وجدوا أنفسهم في مواجهة معضلة نقص التمويل، واضطروا للابتكار والنضال من أجل إخراج أفلام قصيرة، حيث لم يظهر أول فيلم روائي طويل إلا في عام 1966. ومع نيل 13 دولة إفريقية استقلالها بين عامي 1957 و1960، تشكلت مجموعات صغيرة من السينمائيين في كل بلد، عائدة من معاهد السينما في موسكو وباريس ولندن، محملة بحلم كبير: تسليط عدساتهم على التحولات العظيمة التي كانت تجتاح القارة الإفريقية.

 

سليمان سيسي: شاعرية السينما الإفريقية

من بين هؤلاء الرواد، برز سليمان سيسي، المخرج المالي الذي تأثر بجماليات السرد والأسطورة الإفريقية. وُلد سيسي في عام 1940 وتلقى تعليمه السينمائي في الاتحاد السوفيتي، حيث تعلم كيف يجمع بين الواقع الإفريقي والتعابير المجازية. كان فيلمه الأول “الفتاة الشابة” (1974) يعكس هذا المزج المتقن بين الأسطورة والواقع، حيث استخدم شخصية الفتاة الخرساء للتعبير عن النساء في المجتمع الإفريقي اللواتي لا يُسمح لهن بالتعبير عن آرائهن بحرية. في أفلامه اللاحقة، مثل “الريح” (1982) و”النور” (1987)، تجاوز سيسي حدود السرد الواقعي إلى عالم مجازي يمثل رحلة نحو التغيير.

المخرج المالي سليمان سيسيه © أ ف ب
المخرج المالي سليمان سيسيه © أ ف ب

الخاتمة:

بعد رحلة طويلة بدأت منذ عقود قليلة، استطاعت السينما الإفريقية السوداء أن تجد طريقها إلى العالمية، رغم أنها بدأت دون البنى التحتية أو الموارد الاقتصادية التي كانت متاحة للسينما الغربية. لكنها استعانت بالروح والقوة والتمسك بالهوية لتشق طريقها. عبر أفلامهم، استطاع المخرجون الأفارقة أن يقدموا رؤىً مغايرة، أن يعبروا عن قضايا معقدة مثل الاستعمار، النضال من أجل الاستقلال، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها القارة.

اليوم، ورغم كل التحديات التي تواجهها القارة الإفريقية، تستمر السينما في التطور والتجدد. كل فيلم يُنتج، وكل مخرج جديد يظهر على الساحة، يمثل خطوة أخرى نحو تحرير السينما الإفريقية من القيود التي فرضها عليها الاستعمار. كما تفتح هذه الأفلام نوافذ جديدة على واقع الشعوب الإفريقية، مما يجعلها قادرة على التأثير في جمهور عالمي، وربما تساهم في تغيير التصورات النمطية عن إفريقيا.

إن السينما الإفريقية السوداء ليست مجرد وسيلة ترفيهية، بل هي فعل مقاومة، وإعادة تعريف، وإعادة اكتشاف للذات. إنها تلك المرآة التي تعكس تاريخ القارة بمآسيه وانتصاراته، وترسم مستقبلاً مليئاً بالأمل والتحديات. وفي خضم هذا التغيير المستمر، تبقى السينما الإفريقية السوداء شاهدة على نضال شعوبها، وعلى قدرتها على تقديم أفكار جديدة تفتح آفاقًا فكرية وثقافية في عالم السينما.

اظهر المزيد

savannahafrican

فريق التحرير موقع سافانا الثقافي
زر الذهاب إلى الأعلى