سافانا الثقافي – تجارة الرقيق في إفريقيا: جرح تاريخي لا يندمل، تجارة الرقيق أشد الصفحات سواداً في تاريخ الإنسانية، وأشنع بصمة على جبينها، وأعمق الجراح التي حزت جسد إفريقيا، فالأفارقة العبيد كانوا يتعرضون لمعاملة لا إنسانية، حيث كان مالكوهم يحرمونهم من جميع الحقوق فلم يكن مسموحًا لهم بتعلم القراءة والكتابة أو تبني الديانة المسيحية أو الإسلامية خشية التأثر بمفاهيم التسامح والمساواة التي يروج لها المبشرون، وكانت زيجات العبيد نادرة وكان للسيد الحق في فسخ زواجهم إذا باع أحد الزوجين، ولم يكن لهم الحق في الشهادة أمام المحاكم ولم يحظوا برعاية صحية، واستغلهم أصحابهم لزيادة ثرواتهم ورفاهيتهم.
ونتيجة لهذه المعاملة والظروف السيئة، ازدادت معدلات الوفيات بين العبيد رغم ذلك كان هناك من البريطانيين من يدعم تجارة الرقيق ويعتبرها سببًا لنجاح الإمبراطورية البريطانية وهيمنتها على المياه الدولية. كانوا يرون أن الأرباح التي تمنحها تجارة الرقيق تزيد من ثروة البريطانيين وأن مشاركة البحارة في تطوير مهاراتهم يزيد من سيطرة الأسطول البريطاني على البحار.
فماذا عن أصول هذه التجارة المأساة؟ وماذا فعل العالم للوقوف في وجهها؟
التاريخ المظلم للبرتغال
يمكن القول إن تجارة الرقيق تركزت في الساحل الغربي لإفريقيا بسبب ارتباطه الوثيق بالأنشطة الأوربية، بحكم قربه منها مما مهد للتواصل المظلم، وجعل إفريقيا في مواجهة مفتوحة أيضًا مع الأمريكيتين اللتين كانتا تستقبلان أعداداً كبيرة من الرقيق، وقد لعبت البرتغال دوراً رئيساً في تجارة الرقيق بين الدول الأوروبية، ومردُّ ذلك إلى قيادتها لحركة الاكتشافات الجغرافية والاستعمار، وفقد مارست نشاطها في مجال تجارة الرقيق على الساحل الغربي لإفريقيا معتمدة على إنشاء محطات مسلحة بالبنادق وخاصة عند مصبات الأنهار.
بدأ البرتغاليون خطف الرقيق والتجارة بهم منذ عام 1442م، وكانت الأغلبية العظمى من الرقيق تأتي من دول مثل أنجولا والكنغو وغينيا وغانا وموزمبيق، حتى أصبحت تلك تجارة في هذه المناطق مصدرًا كبيرًا للربح وبات من الممكن الاعتماد عليها كمصدر أساسي للدخل بدلاً من تجارة السلع الأخرى مثل الذهب أو التوابل، التي كانت هدف الاكتشاف البرتغالي منذ البداية، وأثارت تجارة الرقيق بعد ذلك اهتمام جميع الأوروبيين خلال تلك الفترة، حيث وصلت أول شحنة من الرقيق الإفريقيّ إلى الأمريكيتين على يد البرتغاليين في عام 1510م.
وبدأت إنجلترا تتبع ذلك عندما نقل القرصان الإنجليزي جون كنز 400 إفريقي إلى الأمريكيتين في عام 1562م، ونتيجة للربح الكبير الذي درته تلك التجارة راحت إنجلترا تنافس على المستعمرات الإفريقيّة. وفي عام 1662م، أنشأت مركزًا لها في غرب إفريقيا على نهر جامبيا. وما بين عامي 1680 و1786م، ونُقل أكثر من مليوني عبد إلى المستعمرات البريطانية في جزر الهند الغربية وأمريكا الشمالية. وقد عملت 192 سفينة في هذه العملية، وتأسست شركات بريطانية ومراكز وحصون على السواحل الإفريقيّة للاحتكار التجاري في هذا المجال.
دخلت هولندا مجال المنافسة الاستعمارية، وتصادم الهولنديون مع البرتغاليين واستولوا على معظم محطاتهم على السواحل الإفريقيّة، حتى أصبح لهولندا 15 مركزًا على الساحل الغربي لإفريقيا. وتأسست شركة جزر الهند الغربية الهولندية في عام 1621م للتجارة ونقل الرقيق بين إفريقيا والأمريكيتين. ثم زادت سيطرة الهولنديون فاستولوا على موانئ ساحل الذهب وأقاموا موانئ جديدة لخدمة تلك التجارة مما جعلهم منافسين خطرين للنشاط التجاري الأوروبي، وخاصة للبرتغاليين والإنجليز في إفريقيا.
إلغاء الرق:
أدرك بعض المفكرين البريطانيين المأساة التي يعاني منها الرقيق في المستعمرات الإنجليزية والأوروبية، فبدأت دعوات لمعاملتهم بشكل أفضل ومنحهم حقوقهم وتنظيم هذه التجارة المربحة للدول الاستعمارية ثم تطورت هذه الدعوات حتى تأسست أول جمعية لتحرير الرقيق في بريطانيا عام 1783م، وتبعا لذلك كانت الحكومة البريطانية في مقدمة الدول الأوروبية التي تأثرت بهذه الدعوات، لكن ليس بسبب اعتقادها بأهمية الجانب الإنساني، بل لأنها رأت فرصة لتعزيز سيطرتها على أجزاء من إفريقيا بذريعة مكافحة العبودية وفرض هيمنتها على البحار بذريعة التأكد من تنفيذ السياسات المكافحة للرق، فكانت مكافحة العبودية مجرد غطاء لإنجلترا لاستخدام العنف وتوسيع نفوذها في إفريقيا وقمع أي مقاومة قد تنشأ من السكان المحليين.
الخدعة البريطانية
استغلت بريطانية دعوة تحرير الرق لإنشاء مستعمرات في إفريقيا، مثل سيراليون، التي أسست فيها جمعية مكافحة الرق البريطانية في عام 1787م. وفي عام 1807م، أصبحت سيراليون مستعمرة بريطانية رسمية، وتم اعتبار فريتاون، Free Town العاصمة الرئيسية لمكافحة الرق، بالإضافة إلى ذلك حصلت جمعية الاستعمار الأمريكية على إذن من الحكومة الأمريكية في عام 1819م لإنشاء مستعمرة للرقيق المحررين على ساحل إفريقيا الغربي، وهي المستعمرة التي أصبحت لاحقا دولة ليبيريا.
ومن الطبيعي أن مكافحة الرق لم تكن بالمهمة السهلة بسبب تفشي هذه التجارة واعتماد العديد من الأطراف عليها كمصدر رئيسي للدخل، فكانت مكافحة الرق تعني التصدي للسماسرة وزعماء القبائل الإفريقيّة الذين يستخدمونها كوسيلة لفرض هيمنتهم. بالإضافة إلى ذلك، كانت تعني التصدي للربح التجاري الذي استفادت منه الدول الأوروبية ومالكي المزارع والمناجم في العالم الجديد الذين يستخدمون العبيد الأفارقة لزيادة ثرواتهم.
خلال القرن التاسع عشر، قامت بريطانيا بتوجيه الجهود الدبلوماسية والعسكرية نحو منع تجارة الرقيق عبر الأطلسي وتحرير العبيد واتخذت تدابير لمنع السفن الأجنبية من نقل العبيد ودفعت الدول الأوروبية الأخرى للانضمام إلى جهود مكافحة العبودية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في عام 1807، أصدرت بريطانيا قانونا حظر تجارة الرقيق، مما أدى إلى إنشاء قوة بحرية خاصة، تعرف باسم “الأسطول البريطاني لمكافحة تجارة الرقيق”، التي كانت مهمتها ضبط ومصادرة سفن الرقيق وتحرير العبيد المحتجزين على متنها. بالإضافة إلى ذلك، تجلى التوسع الاستعماري البريطاني في إفريقيا من خلال السيطرة على المناطق الاستراتيجية والموارد الطبيعية.
كما استغلت بريطانيا كل مؤتمر دولي لتقديم مبادراتها المتعلقة بمكافحة الرق، مما أتاح لها الحصول على تفويض لتفتيش السفن المارة قرب السواحل الإفريقيّة. وحصلت على قرار لمكافحة الرق من مؤتمر فيينا الذي عُقِد في عام 1815 لمناقشة نتائج الحروب النابليونية، كما أبرمت اتفاقيات مع معظم دول أوروبا تمنح بريطانيا حق تفتيش سفن تلك الدول. ثم تتابعت إصدارات الدول الأوروبية للقرارات من هيئاتها الوطنية التشريعية والتنفيذية لمكافحة الرق، فقد قام الإمبراطور نابليون الأول بإصدار قرار لمنع تجارة الرقيق في فرنسا ومستعمراتها خلال فترة حكم المائة يوم، أما البرتغال فقد أبرمت اتفاقًا مع بريطانيا حدد عام 1850 كموعد نهائي لإنهاء تجارة الرقيق في ممتلكاتها الإفريقيّة والأمريكية، كذلك اتخذت هولندا والسويد وغيرها من الدول الأوروبية قرارات بحظر تجارة الرقيق.
الولايات المتحدة الأمريكية وحظرها لاستيراد الرقيق
فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية، فقد حظرت استيراد الرقيق منذ عام 1794 وحظرت تجارته في عام 1808. وقد خصصت الأموال لمكافحة هذه التجارة منذ عام 1819 ونتيجة لهذه القرارات ارتفعت قيمة الرقيق في الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارهم ممتلكات، حيث لم يعد من الممكن استيرادهم، وإذا علمنا أن الزراعة والصناعة والتعدين كانت تعتمد بشكل كبير على الرقيق وخصوصًا في الولايات الجنوبية المنتجة للقطن، فقد توترت العلاقات بين هذه الولايات التي كانت في حاجة إلى أعداد كبيرة من الرقيق وبين الحكومة الفيدرالية بقيادة الرئيس أبراهام لنكولن المؤيد لمكافحة الرق، وعلى الرغم من إدراك الجميع لدور الرقيق الإفريقيّ في تحقيق الازدهار الأمريكي من خلال الإنتاج والخدمات، إلا أن الحزب الجمهوري أصر على إلغاء الرق باعتباره عملًا غير إنساني وبالتالي اندلعت الحرب الأهلية بين الولايات الجنوبية والحكومة الفيدرالية، واستمرت من عام 1861 إلى عام 1865.
انتصرت الحكومة الفيدرالية في هذه الحرب وهو ما أسهم في القضاء على تجارة الرقيق. مع ذلك، وبالرغم من إصدار القرارات الرسمية من الدول وفرضها عقوبات على المخالفين، استمرت هذه التجارة بشكل غير رسمي وبطرق فردية، مما قلّـل من فعالية الجهود المبذولة لمكافحتها. ويجب أن نُشير هنا إلى عودة مجموعات من الأفارقة المغتربين إلى إفريقيا من أوروبا والولايات المتحدة، حيث أُسست مستعمرات سيراليون وليبيريا. كما عادت مجموعات أخرى من الرقيق المحررين من البرازيل إلى المدن الساحلية في نيجيريا وداهومي، مثل لاغوس وبورتو نوفو، وكان العديد منهم عمال حرفيين ماهرين.
دعوات لتعويض المتضررين من تجارة الرق
من الصعب تحديد طرق تعويض ملموسة وشاملة للأضرار التي لحقت بالإفريقيّين بسبب تجارة الرقيق، حيث أن هذه الأضرار تتجاوز الجوانب المادية وتشمل التدمير الثقافي والنفسي والاجتماعي. ومع ذلك، دعا بعض المثقفين إلى الاعتراف والاعتذار من الدول الاستعمارية المتورطة في تجارة الرقيق وأن تعترف رسمياً بالجرائم المرتكبة في الماضي وتعتذر عنها لأن هذا الاعتراف خطوة أولى نحو تحقيق المصالحة والتعايش السلمي. كما دعوا الدول المتورطة في تجارة الرقيق إلى تقديم تعويضات مالية للإفريقيين الذين تأثروا بشكل مباشر بسبب هذه التجارة. هذه التعويضات قد تكون على شكل دعم مالي للمشاريع التنموية في الدول الإفريقيّة المتضررة.
الخاتمة
في النهاية، لا يمكن لأي تعويض أن يستعيد ولو جزءا مما فُقد بسبب تجارة الرقيق، إلا أن المبادرات المذكورة أعلاه ساهمت في تقديم بعض من أشكال التعزية لتقوية التوعية والمصالحة بين المجتمعات المتأثرة، والهدف الأساسي هو تحقيق عالم أكثر عدالة ومساواة، حيث يتم التعامل مع جميع الأفراد بكرامة واحترام، بغض النظر عن تاريخهم أو خلفيتهم الثقافية.
لنحاول أن نستلهم نحن اليوم من تاريخ مكافحة الرق دروساً قيّمة حول أهمية التضامن والعزم السياسي في مواجهة ظواهر لا تليق بالإنسانية. فرغم النجاحات المحرزة في إلغاء الرق في الولايات المتحدة ودول أخرى، لا تزال تلوح في الأفق تحديات جديدة في مكافحة أشكال العبودية المعاصرة والاتجار بالبشر.
إقرا المزيد: