سافانا الثقافي – قصة “الهاربة من سالم” الكاتبة منال عبدالحميد”
ظلمة رهيبة تحيط بها، وهي تحمل ربطة ثيابها وتعدو هاربة، إن الهلع يطاردها وذكري الأجساد المتدلية من المشانق، المتأرجحة كبندول، تطاردها في كل خطوة تخطوها، المشانق التي عُلقت بسبب أكاذيبها، والأجساد التي فارقتها الحياة قسرا بسبب إدعاءاتها المزيفة، وصراخها الهستيري المتقن، هي والفتيات الصغيرات اللعينات، أذيالها المطيعة التي طالما تلاعبت بهن وأمضت مشيئتها عليهن.
إنهن ينعمن بالنوم الهادئ، ودفء الفراش في القرية ،التي تحطمت بسبب ألاعيبهن، بينما هي وحدها تدفع الثمن غاليا وتمضي هائمة متشردة لا تعرف أين سيستقر بها المقام لقد سرقت خزانة خالها الأبله، وجردته من أملاكه المنقولة الثمينة، لكنها لا تزال تشعر بأنها لم تقتضي حقها كاملا منه ومن ابنته بعد، يكفيها فقط أن الشيطان تركهم كلهم ومضي في أعقابها هي وحدها.
…
البلدة صامتة خاوية والظلام يلفها، صمت لا تقطعه إلا أصوات نباح كلاب ضالة تهيم على وجهها في الليل، كلاب كان لها بيوت تؤويها منذ شهور قليلة، قبل أن تحل ضربة الشيطان بسالم الهادئة ،وتأخذ في طريقها الأرواح المعذبة، أرواح البشر وأرواح الحيوان أيضا، إن الشيطان ليضحك ساخرا وهو يراقب هذه المأساة، لقد أفرغ يديه وأنتهي عمله هنا، لا لم ينتهي تماما بعد، فلا زالت مهمة صغيرة تنتظره ليؤديها قبل أن يفرك كفيه ويحمل عصاه ويرحل !
…
عاد الصوت يتردد من خلفها فهرولت جارية ،وهي تدير رأسها لتتطلع برعب خلفها كل ثانية ،صوت الخطوات الهادئ المنظم الرتيب، تدير رأسها وتنظر خلفها، الطريق ساكنة والظلام يغلف كل شيء، ثمة أدخنة خبيثة تتصاعد من مكان مجهول وتتجمع في شكل سحب ضبابية ترتفع حتى تكاد تلامس عنان الماء، لو كانت ” إبيجايل ” مثقفة لخشيت على نفسها أن تهلك بسبب هذا الكم من ( المياسما )الشيطانية، لكن الحمد لله فلم تكن الفتاة إلا أمية، جاهلة حقودة بغيضة، ومحببة لقلب سيدها الحقيقي، الذي لم تخدم غيره طول عمرها القصير المحمل بالخطايا، الشيطان !
كان الشيطان هنا و” أبيجايل ” وحدها معه، لقد انتهت مهمتها ولم يعد سيدها القديم بحاجة إلي خدماتها، أو إليها هي نفسها ، يجب أن تموت قبل أن تتوغل في السن، وتداهمها نوبة إفاقة وتوبة مباغتة، وتفتح فاها لتتكلم وتفسد عمل قرون مظلمة طويلة ..” أبيجايل ويليامز ” من اتهمت الجميع وأدانتهم حل الليلة يوم دينونتها المرعبة !
…
نظرت في المرآة طويلا وهي تلاحظ ملامح وجهها الدقيقة، لقد وجدت مكانا تبيت فيه أخيرا، استخدمت طرقها القديمة وألاعيبها .. صاحب المنزل رجل أعزب، كهل أحمق متصابي، لم تحتاج إلي أن تغريه طويلا قبل أن يسقط طريح إغواءها، ويوافق على أن يعطيها غرفة في منزله، لقد وعدته بأن تعمل خادمة لديه، وأشارت من طرف خفي إلي الخدمات الأخرى التي يمكنها أن تقبل بالقيام بها، إن هو أكرمها وأحسن وفادتها، ويبدو أن الرجل سقط في الفخ من فوره لأنه قادها إلي غرفة بالدور الأرضي ،مفروشة بشكل جيد جدا، حجرة متسعة بها فراش وثير ومغسلة نظيفة ومصباح غازي يشع بنوره الساطع، الذي لم تري ” أبيجايل ” مثيلا له في (سالم ) طيلة حياتها، وتركها تقفل الباب دونه وعيناه تشعان بلمعة أمل ولهفة، وأخيرا صارت الهاربة وحدها بين جدران أربعة تحميها من غوائل الطريق ،والرعب الذي طاردها في رحلتها الطويلة !
بدلت ثيابها نصف مغمضة العينين، ثم آوت إلي فراشها دون أن تنتبه إلي أنها ليست وحدها في الغرفة !
…
تصاعد صوت رتيب في الكون الخاوي المتصدع، شيء أشبه بخوار قطيع أبقار غاضب هائج، في الظلمة لم يكن هناك أحد، وفي منتصف البلدة أرتفع شبح المنصة التي أقيمت فوقها المحاكمات الأخيرة، هدمها الناس الغاضبون، وفتتوا أخشابها الغليظة بضربات معاولهم الثائرة، المحملة بالحقد والضغينة، وحولها تناثرت الحبال المتدلية مما تبقي من المشانق التي تركها الأهالي على حالها، لقد استبقوا المشانق لتذكرهم بالرعب الذي فرضته هذه المحكمة الجائرة على البلدة، لكي لا ينسوا الذل الذي عاشوه عندما اختاروا الركون والاستسلام، لكي يجعلوا تلك المشانق الشبحية درسا عمليا لأطفالهم، يعلمونهم من خلاله أن يثوروا على من يفكر في تجريمهم ورميهم بالتهم الباطلة الغامضة، وألا ينتظروا حتى يهيمن الرعب على بلدتهم .. ( سالم ) غافية الآن نائمة في حزن تلعق جروحها لكن الخوف لم يقدر له أن يفارقها بعد !
…
تفقد القس ” باريس ” ابنته ، فلم يعثر عليها في فراشها، بحث عنها محموما مرعوبا في البيت فلم يقف لها على أثر .. تري أين اختفت الطفلة في هذا الليل البارد المخيف ؟!
…
نهضت ببطء من سريرها الصغير، كانت تسمع نداء خافتا يتردد همسا في أذنيها، في الحال فتحت عينيها، وخطر ببالها أن صاحب البيت المتعجل قد تسلل إلي غرفتها ليحصل على الخدمات الأخرى التي وعدته بها تلميحا، لكنها عندما تطلعت حولها لم تري أثرا لأحد، فقط هي وحدها وحولها الظلام، الذي ازدادت حدته باضمحلال ضوء المصباح الذي كاد ينطفئ تماما، لكن شعورا بالترقب رافقها ودفعها إلي مغادرة فراشها ، بينما هي تزيح الأغطية جانبا لاحظت يديها في نظرة جانبية عابرة، توقفت عن مواصلة دفع الأغطية ونظرت إلي يديها برعب، وهي تحس كأنها مغموسة في أتون كابوس مظلم مخيف .. إن بشرتها الرقيقة المشدودة قد تجعدت كامرأة تسعينية عجوز، خطر لها أنها تتخيل، تتوهم ، إنه تأثير الظلام المنتشر تحملت خواطرها المضطربة للحظة ثم دفعت طرف الأغطية بجنون وجرت نحو المرآة بنزق ،فأوقعت كل شيء في طريقها على الأرض، أخيرا وجدت نفسها أمام رفيقتها القديمة المرآة، ولم تكذبها الأخيرة خبرا، وعلى السطح العاكس المغبش رأت وجها مجعدا مثيرا للشفقة والرعب !
تطلعت ” أبيجايل ” إلي وجهها الوجه الذي لم تره من قبل أبدا وهي غائبة في نوبة ذهول غير واعية بما تري أو تفعل، ثم فجأة هبت معبرة عن ذعرها، صرخت بصوت مروع ارتجت له جدران المنزل، ثم انهالت على المرآة ضربا بيديها وأظافرها، أطلقت صرختين أخريين، ثم أحست بشيء ينساب خارجا من جسدها، حاولت الإمساك به مستميتة لكنه تركها وولي كانت تدرك أنه ليس إلا روحها المحملة بقدر أكبر مما تحتمل من خطايا، وراحت تسقط بعدها ساحبة معها يديها المشرعة وأظافرها الممدودة، التي تركت خلفها خدوشا غامضة على زجاج المرآة، بينما جلجلت آخر صرخات رعبها في العالم من حولها، قبل أن يخرس صوتها إلي الأبد .. ويستعيد الكون صمته الشامت المتآمر !
…
تحركت الحبال المهترئة استجابة للرياح العاتية التي تلف ( سالم ) الهاجعة، ودوي صوت دوران وتصادم قطع الأخشاب والمعدن المتبقية من هيكل المنصة المشئومة، كان كل شيء يغطس في الظلام، والفتاة ذات الثوب المنزلي الأبيض تقترب من المشهد، كانت تمشي غير واعية، غارقة في نوم مسحور غريب مشت بقدمين خفيفتين، لا تكاد أطرافها تلامس الأرض، وكأنها تطفو في الهواء، مضت نحو مصيرها وهي لا تعرف ماذا تفعل بنفسها أو ماذا سيفعل بها من قادها وأخرجها من فراشها وأتي بها، لأي هدف ؟، إلي هنا !
…
في الصباح الباكر كان موقع المحكمة، التي حلها الأهالي بالقوة يخيم عليه الهدوء والسكون، لا أحد يجرؤ على الاقتراب من هنا آناء الليل أو أطراف النهار، فالمكان محمل بقدر أكبر مما ينبغي من الحزن والانقباض ونوازع الغضب وهنات الكراهية، ولذلك كان مقدرا للجسد أن يبقي لساعات طويلة وحيدا ولا أحد يشاهد عذابه، جسد الفتاة الصغيرة التي ترتدي ثوب نوم أبيض، وتتأرجح من مشنقة محطمة والحبل يدور حول نفسه برتابة .. والجسد البارد معه يدور ويدور بلا توقف أو نهاية !
إقرا المزيد: